أحمد سعد يكتب: أحمد الطنطاوي.. والسيساوي المقلوب!
قديما قال الأديب نجيب محفوظ: آفة حارتنا النسيان، ولو أن جملتي تبقى كما بقيت جملة نجيب محفوظ، لقلت إن آفة أمتنا السذاجة، فليت شعري!ّ
وسذاجة أمتنا الحالية تجسدها حالة الإفراط الشديد في إحسان النية بالغير، إفراط يصل لحد الانخداع في الخصم، قدر الوثوق بالحليف.. فلولا هذه السذاجة لما تهاونت الشعوب العربية في محاسبة ومحاكمة الأنظمة الفاسدة ودولاتها العميقة التي أسقطتها ثورات الربيع العربي، للحد الذي جعل تلك الأنظمة تستعيد دولاتها سريعا، وتعيد الشعوب إلى حظائرهم مرة أخرى!!
فالسذاجة قاتلها الله كانت ولا زالت هي العدو الأول لأمتنا العربية!!
والحقيقة أنه راعني ما ردده بعض هؤلاء السذج من أن القبض على النائب السابق أحمد الطنطاوي وحبسه سنة في قضية التوكيلات الشعبية للانتخابات الرئاسية المصرية (ديسمبر 2023) جاء لينسف الأقاويل والشائعات التي كان يرددها البعض من أمثالي بأن ترشح الطنطاوي لهذه الانتخابات ضد عبد الفتاح السيسي، كان بترتيب مع أجهزة السيسي الأمنية، وهو كلام رأى السادة السذج أن الأيام والأحداث أثبتت خطئه وإثمه، والدليل هو حبس الطنطاوي..
وأنا هنا لا أملك من أمري سوى الإشفاق على هؤلاء الطيبين الذين تحرص أجهزة السيسي على التلاعب بعقولهم وعواطفهم طوال الوقت، وتستخدمهم كثيرا لترويج روايات ومواقف تخدم مصالح السلطة، لأنه لا أحد يشك في أن سلطة السيسي يهمها بالدرجة الأولى أن تنفي عن نفسها ما يعلمه الناس بالضرورة من الانتخابات الرئاسية التي نراها منذ 2014 وحتى 2023 هي مجرد مسرحيات هزلية معروف نتائجها مسبقا، وبالتالي فهي يهمها أن تنفي عن نفسها أي تهمة تجعل الناس تتصور أن كل هذه الانتخابات كانت مجرد شكل لاستكمال ديكور سياسي ليس أكثر، وعليه فهي يهمها أيضا أن تنفي وبشدة تهمة استخدامها لأحمد الطنطاوي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبناء على ذلك فإن أي ترويج لمثل هذا الزعم بأن الطنطاوي كان مرشحا للانتخابات من وراء السلطة وبدون تخطيط منها، فهو بلا شك أمر يخدم أهداف تلك السلطة، ويبرئ ذمتها أمام الشعب والتاريخ، بل وينفي عنها ديكتاتوريتها وسطوها بالقوة على كرسي الحكم، وإذا صح ذلك فقد وجب على الناس أن يبدوا ندمهم وبأثر رجعي على خطئهم في حق هذه السلطة، ذلك لأنهم اتهموها ظلما وبهتانا عندما قالوا عن انتخابات 2014 التي كان فيها حمدين صباحي هو المنافس الكومبارس للسيسي بأنها تمثيلية، وانتخابات 2018 التي كان فيها موسى مصطفى موسى هو الكومبارس للسيسي أنها تمثيلية أيضا، كما علينا أن نعاقب أنفسنا على ظلمنا للسيسي، لأننا أساءنا الظن به يوم أن اعتقل الفريق سامي عنان الرئيس السابق لأركان القوات المسلحة، لأنه أبدى رغبة في خوض الانتخابات الرئاسية!!
وإذا كانت عمليات تبيض وجه السيسي أمام الرأي العام، هي مهمة مؤيدي السيسي بالدرجة الأولى والأخيرة، فإني لا أتصور أبدا أن يؤديها من هم في المعسكر الأخر المضاد للانقلاب، فهؤلاء يفترض فيهم معرفة مكر وألاعيب السلطة المختلفة لتبرير القرارات وتمرير السياسات، وأن يتم استخدامهم في ترويج تلك القرارات والسياسات، فهذا معناه أنهم أصبحوا سيساوية ولكن بالمقلوب، لأنهم يقولون إنهم ضد السيسي، لكنهم وفي نفس الوقت يخدمون مواقفه وسياساته.. ألا لعنة الله على تلك السذاجة!!
والذين روجوا لفكرة أن الطنطاوي أعلن الترشح للانتخابات الرئاسية ضد رغبة النظام ورغم أنف أجهزتها، لم يجيبوا لنا عن الأسئلة التي طرحت نفسها في فترة الاستعداد للانتخابات، عندما كان الطنطاوي يقوم بجولاته الانتخابية، وكان يظهر في وسائل الإعلام المحلية والدولية وهو يهاجم السيسي ونظامه ويتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور في حالة النجاح، دون أن يقترب أحد منه، أو يُداس له على طرف، فهل كانت دولة السيسي وقتها عاجزة عن إيقافه؟ أم أنها كانت خائفة منه؟ وإذا قلنا كما يقول السذج بإنها كانت خائفة باعتبار الطنطاوي كان محميا من دول خارجية مثل أمريكا، فلماذا توقفت هذه الدول عن حمايته الآن وتركته يدخل السجن؟ وإذا قال هؤلاء السذج بإن أمريكا لا يمكنها التدخل في أحكام القضاء، فهذا يعني أنهم مصدقون لعدالة الأحكام التي يصدرها قضاء السيسي، فهل هي كذلك؟!
القصة وما فيها هو أن الدور الذي كان مطلوبا من أحمد الطنطاوي انتهى بنهاية الانتخابات الرئاسية، وهو دور قد يكون تم باتفاق معه أو بدون اتفاق، وإن كنت أميل شخصيا بأنه بدون اتفاق، حيث دُفع إليه الطنطاوي دفعا عن طريق أجهزة السيسي التي كانت تبحث في ذلك الوقت عن شخصية ليست ( محروقة ) إعلاميا وسياسيا، ولديه حد معقول من ثقة الناس وهو ما كان يتمتع به أحمد الطنطاوي وقت أن كان عضوا بمجلس الشعب ( 2015 – 2020 ) فاخترته الأجهزة لهذه المهمة بعد أن وعدته بتوفير الأمان له، فقد كانت كل الوجوه المطروحة في الساحة، قد حرقت نفسها بنفسها، بتأييدها ودعمها للسيسي، وكانت النية تتجه في انتخابات 2023 إلى إخراج انتخابات أكثر منطقية عن سابقتيها، ومن ثم وجب وجود مرشح يستطيع أن ينافس السيسي منافسة حقيقية، وشريفة، وطاهرة، تناسب الكرسي الطاهر، ويا أم المطاهر…
والذي لا ريب فيه هو أن الذي جعل السيسي وأجهزته يغيرون موقفهم من الطنطاوي وينقلبون عليه بهذا الشكل الدراماتيكي، هو التغيير الجوهري المفاجئ الذي طرأ على الموقف الأمريكي والمتعلق بعلاقتها بالسيسي، ذلك التغيير الذي أحدثه هجوم حماس على إسرائيل في عملية ( طوفان الأقصى ) بالسابع من أكتوبر 2023، فقد جاءت تلك الحرب لتغير كل قواعد اللعبة في المنطقة، بل وتعيد تشكيل معظم العلاقات بين الغرب ودول الشرق الأوسط، وخصوصا بين أمريكا ومصر، فعلاقة أمريكا بالسيسي قبل طوفان الأقصى، غير العلاقة بعد طوفان الأقصى، فقبل الحرب كادت أمريكا أن تتخلى عن السيسي وترفع يدها عنه تماما، أو على الأقل تؤدبه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ( وذلك لأسباب لا مجال لسردها الآن ) إلا أن الحرب جاءت لتعيده لحضن أمريكا مرة أخرى، بل وتجعل الرئيس الأمريكي بايدن الذي كان يرفض مجرد الرد على مكالمات السيسي التليفونية، يأتي إلى مصر ويلتقي بالسيسي، حتى أن البعض ظن وقتها أن ( طوفان الأقصى ) كان صناعة مصرية خططت لها مخابرات السيسي، وذلك لحجم المكاسب السياسية الدولية الكبيرة التي جناها السيسي من نشوب تلك الحرب، فقد أعادت الحرب تذكير أمريكا بأهمية وجود السيسي في الحكم وعدم التفريط فيه أبدا، فلن يكون هناك حاكم لمصر أوفى منه تستأمنه على حماية وتأمين إسرائيل، وساعتها تم التراجع عن كل السيناريوهات التي كانت تنبئ بوجود نية لدى أمريكا للتخلص من السيسي، والتي كان من بينها الدفع بمرشح رئاسي قوي أمامه، وعليه اختفى أحمد الطنطاوي عن المشهد تماما، وأصبح نسيا منسيا، لا يٌذكر أسمه إلا مقرونا بقضية التوكيلات.. أسأل الله أن يخلصنا من داء السذاجة!!