مقالات

أحمد سعد يكتب: الدولة المصرية ودولة السيسي (بئر معطلة وقصر مشيد)!

قبل 12 عاما تقريبا، أنشد المطرب المصري على الحجار أغنيته الشهيرة (أحنا شعب وأنتوا شعب) ضمن حملة ترويجية ضخمة، رعتها المؤسسة العسكرية، ومولتها دول خليجية، وهي حملة كانت تمهد لعزل نصف الشعب المصري عن نصفه الآخر، بدعوى خيانة الأول للوطن، وسعيه لهدم الدولة، وإخلاص الثاني، وحرصه على استقرارها.

قبلها كان الجنرال عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع، قد نجح في استمالة الملايين من المصريين، مكونا بهم دولته الخاصة، التي سيخوض بها معركته ضد بقية أبناء الشعب، ممن تحولوا إلى عملاء وخونة!

ومنذ ذلك اليوم أصبح لمصر شعبان، الأول ينتمي لدولة السيسي، والثاني للدولة المصرية. وقد نجح السيسي عندها في الحصول على تفويض من شعبه، لتنفيذ أكبر عملية إبادة في حق أبناء الشعب الأخر، ممن كانوا معتصمين بميداني رابعة والنهضة، رفضا للانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب الذي أفرزته ثورة 25 يناير 2011!

وقتها رأى رافضو الانقلاب في أغنية الحجار، أنها بمثابة عنوان لمرحلة مؤقتة، أفرزتها الظروف السياسية التي مرت بها مصر في أعقاب ثورة يناير.

بيد أن الأيام أظهرت أن عملية تقسيم المصريين إلى شعبين، لم تكن أبدا عنوانا لمرحلة مؤقتة، انقضت بانقضاء هدفها السياسي، إنما هي عنوان لحقبة زمنية كبيرة فٌرضت على المصريين، بدأت 2013 بانقلاب الجيش على الرئيس مرسي، ومستمرة إلى الآن، ولا نعرف متى ستنتهي؟

وإذا سلمنا بنظرية الحجار في وجود شعبين لمصر، فإن الانصاف كان يقتضي أن تكون عملية القسمة بينهما عادلة، ووفقا لتعداد السكان، حيث المفترض أن تعداد المصريين الآن 110 ملايين مواطن تقريبا، ولكي يكون هناك شعبان، فالعدل يقتضي أن يكون تعداد كل شعب منهما 55 مليون مواطن، بيد أن ما حصل كان غير ذلك، حيث رأينا من يمثلون دولة السيسي، لا يزيد تعدادهم عن ثلاثة ملايين مواطن، أو خمسة على أكبر التقديرات – بالمناسبة علي الحجار تم استبعاده منها – أما البقية التي تعدادها 105 ملايين مواطن، فهم الذين يتبعون الدولة المصرية، وهم الذين في نظر دولة السيسي، غير مرحب بهم في البلد، ولا يستحقون الحياة، ومن ثم يتم تقتيلهم وتطفيشهم وخنقهم، بالفقر، والجوع، والمرض، والغلاء، والاعتقال، والقهر، والمنع من ممارسة أبسط الحقوق، أما مواطنو دولة السيسي، فهم  المستحقين للنعيم والرغد الذي يعيشون فيه!

حدود الدولتين

ووجود شعبين على أرض واحدة، كان يتطلب ترسيما للحدود بينهما، إلا أن هذا الأمر لم يكن من السهولة تطبيقه على أرض الواقع، وذلك لسبب بسيط وهو أن شعب السيسي على قلته، من حقه التغول على أي مساحة يحتاجها في البلد، دون سؤال أو استئذان أصحابها من أبناء الدولة المصرية، وقد رأينا كيف أن دولة السيسي تعاملت مع الأرض المصرية على أنها ملك خاص، حيث قامت ببيع جزيرتي تيران وصنافير، لدولة خليجية، بل نراها تتصرف كما تشاء في أصول الدولة، إما بالبيع أو المنح، دون رقيب أو حسيب، كما أنها تمكنت من تفريغ العديد من المناطق السكنية وتهجير سكانها إلى أطراف البلاد، إما لبيع تلك المناطق لمستثمر أجنبي، أو لتحويلها مساحات فضاء، يتم زرعها وتشجيرها لتخدم مشروع المستثمر.

ولم يقف الأمر عند حدود الأحياء من السكان فحسب، بل وصل للأموات أيضا، حيث راحت دولة السيسي تتعدى على المقابر والأضرحة، والمساجد الأثرية بهدمها لبيع أرضها، دون مراعاة لحرمة موتى، أو حفاظ على أثار مصر الإسلامية، والتي تميز الدولة المصرية عن غيرها من باقي بلدان العالم!

ووفقا للقانون الذي يحكم الشعبين، فإن مواطن الدولة المصرية لا يملك الحق في التمسك بأرضه أو بيته، إذا ما كان مواطن دولة السيسي يريد أي منهما، فامتلاك أي مواطن من الدولة المصرية لأرض أو بيت، هو ملك في حكم المؤقت يمكن أن يزول عنه في أي لحظة، متى رأت مواطن دولة السيسي نزعهما منه، وهناك العديد من أصحاب الأراضي والقصور الذين تم اجبارهم على التنازل عن أراضيهم وقصورهم، بل هناك العشرات من القصص الإنسانية المبكية، لمواطنين أجبروا على ترك ممتلكاتهم العقارية، قهرا بدون مقابل، أو بيعا بأثمان بخسة.

الفرق بين الدولتين

يمكن التفرقة بين دولة السيسي، والدولة المصرية، بسهولة ودون حاجة لمعاينة أو مراقبة، حيث دولة السيسي هي التي نشاهدها في الإعلانات التليفزيونية، ووسائل الإعلام، ومباريات الكرة، وبرامج المقالب المضحكة، حيث الرقص والغناء والسعادة، والوجوه المتألقة المبالِغة في إظهار السعادة، وهي دولة خالية من الزحام، ومرورها منضبط، ولديها مشروعات صناعية وزراعية واقتصادية وتعليمية وطبية عملاقة، تقدر بمئات المليارات من الدولارات، وهي مشروعات توفر ملايين فرص العمل اليومية للشباب، وهي دولة ناهضة، واقتصادها في ارتفاع، كما أن بها حكومة تسهر على خدمة المواطن وراحته، وغير ذلك من مظاهر الرخاء والتقدم، التي نجدها في دولة السيسي، ولكن على شاشات التليفزيون فقط!

أما الدولة المصرية فهي الموجودة على أرض الواقع، حيث الفقر، والجوع، والمرض، والزحام، واليأس، والكآبة، وصعوبة العيش، والوجوه المظلمة المكسوة بغبار الاكتئاب، والتخلف، والبطالة، والديون المتراكمة، والانهيار الاقتصادي، والفوضى، وغير ذلك من الأزمات التي تراها في الشارع، ولا تعرفها دولة السيسي!

وقد لخص تلك الحالة الانفصامية بين الدولتين، قبل عدة سنوات، مواطن مصري بسيط يعمل سائق توكتوك، في جملة عبقرية عكست وعيه الكبير وثقافته الواسعة، قال فيها ” تشوف مصر في التليفزيون تجدها قطعة من فيينا، أما في الشارع فهي بنت عم الصومال”!

بئر معطلة وقصر مشيد

في الآية الخامسة والأربعين من سورة الحج يقول المولى سبحانه وتعالى: “فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ” صدق الله العظيم.

وفيها بيّن المولى عز وجل الوقت الذي يمكن أن يجتمع فيه النقيضان (البئر المعطلة والقصر المشيد) وهي أن تكون القرية ظالمة، وذلك ما ينطبق على الحالة المصرية، لم يعانيه شعبها من ظلم، ويكفي ظلما التفرقة بين أبناء الشعب الواحد، إلى فريقين، فريق يلهو ويستمتع طوال الوقت، ويعيش في الجنة، وأخر يتألم ويبكي، ويٌعذب في الجحيم!

وفي دولة السيسي حيث القصر المشيد، ترى العز والثراء الفاحش الذي عليه أبناء تلك الدولة، كما تشاهده في المستوى الفخم للقصور والفيلات التي بناها السيسي له ولعائلته وأصحابه وخاصته، وتراها أيضا في الأموال الطائلة التي يوزعها الممثل محمد رمضان على البسطاء يوميا في شهر رمضان!

أما في الدولة المصرية حيث البئر المعطلة، فمواطنها هو الذي تراه وقد أثقلته هموم المعيشة، وأقعدته قلة الحيلة، فهو عاجز طوال الوقت عن توفير قوت يومه، وهو أيضا الذي تراه هائما على وجهه، يسير في الشوارع، يحدّث نفسه بصوت عال مناشدا ربه، إيجاد مخرج من ضائقته المالية الخانقة، التي سببها تعويم الجنيه وانهياره أمام الدولار، حتى بات هذا المواطن  عاجزا عن الوفاء بأبسط الاحتياجات، والنماذج هنا أكثر من أن تعد أو تحصى، فهذا أب هجر المنزل بحثا عمن يقرضه المال، أو يساعده في إيجاد فرصة لعمل إضافي تعينه على تلبية متطلبات أسرته، وهذا أخر أصيب باللوثة من ضيق المعيشة وعدم وجود ما ينفق به على أسرته فقرر قتلهم ليرتاحوا ويرتاح هو، وتلك أم تنبش في صناديق القمامة بحثا عن لقميات تسد بها جوع أطفالها، هذا غير الصحفي الذي ضاقت به السبل وأصبح سائق تاكسي أو أوبر، والطبيب الحديث الذي قرر العمل نادلا بأحد المقاهي بمهية أفضل من مهية الحكومة، وغير ذلك من المآسي التي تدمي القلوب، وتذخر بها مواقع التواصل الاجتماعي!

السياسة وحرية التعبير

في دولة السيسي يمكنك ممارسة السياسة بمنتهى الأريحية، فمواطن هذه الدولة هو المسموح له بإنشاء الأحزاب، وتأسيس الجمعيات الأهلية، والدعوة للتجمعات، وإقامة الحفلات والندوات، وهو فقط الذي من حقه المنافسة على أي استحقاق انتخابي، خصوصا الانتخابات البرلمانية.

أما مواطن الدولة المصرية فليس من حقه القيام بأي نشاط جماعي، أو ممارسة أي نوع من السياسة، أو حتى الاقتراب منها، كما أنه لا يحق له خوض أي استحقاق انتخابي حتى وإن كان اتحاد الطلبة، وإذا ما تجرأ وأقدم على أي عمل سياسي، فتهمته جاهزة، وهي الانضمام لجماعة الإخوان الإرهابية، ونشر أخبار كاذبة، وعندها يصبح خطرا على المجتمع والأمن القومي، ومن ثم فمكانه الطبيعي هو السجن، وعقوبته هي الإعدام شنقا، وفي أفضل الأحوال السجن المؤبد، وكله بالقانون الذي تملكه دولة السيسي ولا تملكه الدولة المصرية!

وعلى صعيد الحريات فالحال كذلك، حيث مواطن دولة السيسي هو الذي من حقه الظهور في وسائل الإعلام، والكلام في السياسة، والتعبير عن وجهة نظره، ووجهة نظر دولته، كما أن من حقه الاستمتاع بحريته داخل بلده، يتحرك فيها كيفما شاء، وهو فقط الذي يحق له التنقل بين البلاد والسفر إلى الخارج أينما أراد ووقتما شاء.

أما مواطن الدولة المصرية فهو ممنوع من الظهور في أي وسيلة إعلامية، وليس له الحق في أن يعبر عن وجهة نظره أو وجهة نظر دولته، وهو مقيد الحركة طول الوقت، لا يستطيع السفر خارج مصر، إما لتضييق من السلطة الحاكمة، أو لضيق ذات اليد، وفي المرات النادرة التي يتم السماح له فيها بالسفر، فهو مطالب قبل السفر أن يبين للجهات الأمنية أسباب سفره وخط سيره في البلد الذي يسافر إليه، وعند العودة يتم توقيفه في مطار القاهرة لعدة ساعات وربما أياما، للتحقيق معه في تفاصيل رحلته، خصوصا إذا كان سياسيا أو إعلاميا، وكانت الرحلة بغرض إجراء لقاء تليفزيوني مع إحدى القنوات الفضائية!

العرجاني ونخنوخ.. الجيش والشرطة

حتى وقت قريب لم تكن معالم دولة السيسي قد اتضحت بتكوينها الذي عليه الآن، حيث كانت تحتاج لكي تكتمل أن يكون لديها وسائل الأمن والحماية الخاصة بها، وقد نجحت في تحقيق ذلك مؤخرا، بإنشاء قوتين مسلحتين، إحداهما عسكرية، والثانية شرطية، لتكونا القوتين بمثابة الجيش والشرطة في هذه الدولة الناشئة، حيث الجيش الذي تم إنشاؤه، يقوده رجل الأعمال السيناوي إبراهيم العرجاني، أما الشرطة فيقودها صبري نخنوخ، فكما معلوم للجميع فالعرجاني لديه الآن ميليشيا عسكرية معترف بها رسميا من دولة السيسي، وهي ميليشيا أصبحت تنافس في أدواتها ومعداتها وإمكاناتها الجيش المصري، أما نخنوخ فيقود ميليشيا مققنة أيضا تحت ستار شركة الأمن الخاصة فالكون، وهي ميليشيا لديها من الرجال والسلاح والسيارات، ما يجعلها تنافس وزارة الداخلية في الدولة المصرية، وكلتا الميليشيتين معروف الهدف من وجودهما، فميليشيا العرجاني لحماية دولة السيسي من انقلاب جيش الدولة المصرية، أما ميليشيا نخنوخ فهي المنوطة بردع شعب الدولة المصرية، وحماية  السيسي من المتظاهرين في حال قيام ثورة ضده!

أما على صعيد المؤسسات الحكومية والمالية، فإن دولة السيسي أصبح لديها من المؤسسات الخاصة، ما يمنحها الاستقلالية، يكفي امتلاكها لصندوقين اقتصاديين كبيرين، هما (صندوق تحيا مصر) و(الصندوق السيادي) وكلاهما يرأسهما السيسي بنفسه، والصندوقان يستحوذان الآن على الغالبية العظمى من مشروعات الدولة المصرية، فضلا عما يفرضانه من إتاوات على مواطني الدولة المصرية، ومؤسساتها الخاصة، ورجال أعمالها.

ودولة السيسي المستقلة التي يُطلق عليها (الجمهورية الجديدة) تتواجد في شرق القاهرة، ويتم البناء فيها منذ عشر سنوات، وهي تحمل الآن اسم العاصمة الإدارية، وتضم كل المرافق التي تحتاجها الدولة، بما في ذلك المسجد والكنيسة والنادي الرياضي، حتى إذا ما اكتمل البناء، صارت جاهزة لأن تعلن استقلالها التام، على أن تبقى هناك الدولة المصرية، وقد عادت سيرتها الأولى، قبل قدوم الوالي محمد علي!

عبقري علي الحجار!

أحمد سعد حمد الله

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights