أحمد سعد يكتب: العسكر والإخوان.. وأخطاء يناير (1)
أيام قليلة وتحل الذكرى الثالثة عشرة لثورة 25 يناير المجيدة، ومع حلول ذكراها، يتجدد الألم والأمل معا، ألم عدم اكتمالها، وأمل استئنافها من جديد، وتحقيق أهدافها..
13 سنة مرت، ولازالت ثورة يناير تسكن القلب والعقل والوجدان، لم تفارقنا لحظة، ولم تغب عنا يوما، لم نتعب من حكي أحداثها، ولا نمَل من تكرار ذكرياتها، ولن نيأس من استنباط عظاتها ودروسها..
13 سنة ولا زالت ثورة يناير تنفي خبثها، وتفضح منافقيها وانتهازييها، وترفع شأن نبلائها، من شبابها ورجالها ونسائها الشرفاء، وجلهم من الشهداء والقابعين خلف الأسوار الآن..
يخطئ من يقول إن ثورة يناير فشلت، فالثورات لا تنتصر بالضربات القاضية، إنما بالجولات، ولنا التجربة في الثورة الفرنسية التي استمرت لسنوات ليتحقق لها النجاح الكامل، وما حدث مع ثورة يناير بإجهاضها والانقلاب عليها بعد عامين فقط من قيامها، ما هو إلا جولة في سلسة مواجهات قادمة بين الشعب والفسدة القابضين على الحكم، قد تطول المعركة وقد تقصر، لكنها حتما في النهاية ستٌحسم لصالح الشعب بإذن الله، والتاريخ يشهد على ذلك، والتاريخ ليس قدرا، إنما يٌعيد بعضه بعضا..
الاعتراف بالخطأ أول الطريق
هذا لا يمنعنا من الاعتراف بوقوع أخطاء أدت لخسارة الجولة الأولى، وإذا كانت هناك مكاسب كثيرة تحققت على رأسها ارتفاع منسوب الوعي السياسي لدى المصريين، فإن الأخطاء أيضا كانت كثيرة، بل وعظيمة، والمكسب في الجولات القادمة لن يتحقق إلا بالاعتراف بهذه الأخطاء، ووضع الأيدي عليها، والإقرار بها، وإلا ستتكرر نفسها في المستقبل..
نعم الخطأ وارد وجل من لا يسهو، لكن واجب الوقت هو التحلي بشجاعة الاعتراف بالخطأ، والاستعداد لتلافيه، والعمل على علاجه مستقبلا، أما المكابرة، والتنصل من مسئوليته، وإلقائها على بعضنا البعض، فهذا معناه أننا نظل في المربع صفر، ندور في نفس الفلك، وتكون النتيجة في النهاية انتفاضات شعبية، يتم وأدها في مهدها!!
وبالرغم من مرور كل هذه السنوات على ثورتنا العظيمة، إلا أن أحدا من قياداتها ورموزها، لم يقدم لنا حتى الآن كشف حساب عن المرحلة، ويعلن لنا عن الأخطاء التي أدت لخسارة الجولة، بالرغم من أن كثيرين منهم يضعون أيديهم على هذه الأخطاء، بل ويعترفون بها في جلساتهم الخاصة، لكن دون أن يُقدم أحدهم على تقديمها للرأي العام والتاريخ، صحيح هناك من قدم شهاداته عنها في بعض اللقاءات الصحفية والتليفزيونية، كشهادة الدكتور محمد محسوب وزير الشئون القانونية والبرلمانية السابق مع الإعلامي أحمد منصور ببرنامجه الشهير شاهد على العصر بقناة الجزيرة، أو التي قدمها عدد من جماعة الإخوان المسلمين مع الكاتب الصحفي سليم عزوز بموقع الجزيرة مباشر، لكن في الحالتين كان الحرج واضحا على أصحاب الشهادات، فجاءت الاعترافات خجولة ومٌتحفظة، غابت فيها الكثير من الحقائق.. وكشف الحساب الذي أعنيه هنا هو العمل المكتوب الموثق الذي يُجمع في سلسلة كتب أو موسوعة تليق بالحدث، وتلم بالأحداث.
لكن وعلى أية حال يبقى دورنا نحن الصحفيين، هو الاجتهاد في البحث والتنقيب عن تلك الأخطاء، وتقديمها للرأي العام، عسى أن نساهم بذلك في تلافيها بالجولات القادمة، وهذا هو دافعي من سلسلة المقالات هذه، عن ثورة يناير وأخطائها، عسى أن يكون لرأينا أثر في تلافي السابق، وإصلاح القادم.. وعلى الله قصد السبيل.
الثورات تؤكل نيئة!
من المؤكد أن اندلاع ثورة 25 يناير كان مفاجئا للجميع، للنظام الحاكم، وللجيش، والشرطة، بل وللثوار أنفسهم، والثورات فعل مفاجئ، تحركه السماء، يستحيل التنبؤ بحدوثه أو التخطيط لفعله، تماما مثل البراكين والزلازل والأعاصير والفيضانات، ويلخص هذا الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل بقوله ” الثورات في التاريخ مثل الأعاصير في الجغرافيا ” وربما يكون لهذه الفجائية دور في الأخطاء التي وقعت لاحقا، لكن هذا لا يعفي من المسئولية، خاصة بالنسبة للنخب المثقفة التي شاركت في الثورة وكانت متواجدة بالميدان وكان يُسمع لها ويؤخذ برأيها، فهذه النخب يفترض أنها قارئة للتاريخ، وتاريخ الثورات الشعبية خصوصا، والتي من أشهرها الثورة الفرنسية 1789، والبلشفية 1917، وثورات أمريكا اللاتينية بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي ثورات متشابهة السيناريو إلى حد كبير، والثورات تقرأ من كتاب واحد دائما، وكان الواجب على هذه النخب أن تنقل ما حدث في الثورات للميدان، حتى يتحقق لها نفس النجاح، لكن وبكل أسف لم نلحظ ذلك، فما رأيناه في ثورتنا كان مخالفا لكل هذه الثورات، بما يعني أن الاستفادة من التجارب السابقة كانت غائبة، وكأن المصريين أرادوا اختراع نوع جديد من الثورات، فأكثر ما غلب على ثورتنا ورأيته مغايرا لكل ما حصل في الثورات السابقة، هو التسامح المفرط من الثوار تجاه المنظومة الحاكمة عامة والأجهزة الأمنية خاصة، وهو ما تجلى في تعاطف الكثيرين من الثوار مع الرئيس المعزول حسني مبارك عندما ألقى خطابه الأخير، والذي أراد من خلاله استعطاف الجماهير للعفو عنه والانصراف عن المطالبة برحيله، حيث رأينا بعضا من الثوار يذرفون الدموع من أجله، ويبدون تعاطفهم معه، بل ويطالبون غيرهم بضرورة العفو عنه وتركه يكمل فترته الرئاسية، ومن يقارن بين هذا الموقف وما فعله ثوار فرنسا مع الملك لويس السادس عشر الذي تم إعدامه في الميدان، يعرف لماذا نجحت الثورة الفرنسية، وتعثرت ثورتنا المصرية..
وإذا كانت الغالبية العظمى بالميدان لم تستجب لنداءات هؤلاء العاطفيين من المطالبين بالعفو عن مبارك، ونجحوا في فرض إرادتهم على الميدان بضرورة الاستمرار في الحراك حتى سقوطه ورحيله عن الحكم، إلا أن سمة السلمية المفرطة في التعامل مع قوات الأمن ظلت غالبة في كل الميادين، وليس ميدان التحرير (محرك الثورة) فقط، وهذا أحد أكبر الأخطاء التي وقعت، لأن تاريخ الثورات الناجحة لم يعترف بمثل هذه السلمية في مواجهة الطغاة، بل يؤكد على أهمية القسوة والمواجهة الخشنة، دون الالتفات للشعارات الكاذبة التي تروجها أجهزة النظام، وعلى راسها الحفاظ على الدولة من السقوط.. هذا لا يعني أبدا الحث على العنف والدعوة لسفك الدماء، إنما المقصود هنا، هو أن مواجهة من يحمل السلاح في وجهك ليقتلك، لا يجب أبدا أن تٌقابل بالتسليم والاستسلام، وإلا ما نجحت ثورة في التاريخ، فالبديهي والمنطقي هو أن الفاسدين القابضين على الحكم سيقاومون الرحيل بكل ما أوتوا من قوة وسلاح حتى وإن قتلوا الشعب بأكمله، ومن العبث الظن بأنهم سيفرطون في الحكم ومكاسبهم الضخمة، بالمظاهرات والهتافات السلمية التي تطالبهم بالرحيل، ولدينا المثل والدليل فيما حدث في جمعة الغضب 28 يناير، والتي شهدت سقوط الشرطة المصرية أمام الثوار، وهو الأمر الذي كان له أكبر الأثر في الاستجابة لطلبات الثوار لاحقا ومنها تنحي مبارك عن الحكم، فلولا أن الثوار تعاملوا في هذا اليوم مع الشرطة بكل القوة والحزم بل والعنف، ومواجهة القوة بالقوة، لكانت الشرطة قضت على الثورة مبكرا جدا في يومها الثالث، والحقيقة أن ثورة يناير ما كانت ستحقق النجاح الذي حققته في أيامها الأولى، لولا صمود القوي في هذا اليوم، ويوم موقعة الجمل في الثاني من فبراير، ذلك اليوم الذي واجه فيها المعتصمون بميدان التحرير بلطجية الحزب الوطني بالقوة وأجبروهم على الخروج من الميدان، ولو أن الثوار ظلوا للنهاية على مسارهم الثوري الذي اتبعوه في جمعة الغضب وموقعة الجمل، لما تعثرت الثورة، ولما تم الانقلاب عليها بهذه السرعة..
ولا شك أن سلمية المتظاهرين وحسن نواياهم في مواجهة الدولة العميقة وأجهزة المخابرات، هو الذي منح الفرصة لهذه الأجهزة وللدولة العميقة، في إعادة الصفوف، والعمل بهدوء من أجل إفشال الثورة، والواجب كان يقتضي مواصلة ما جرى في جمعة الغضب وموقعة الجمل، أولا لإرباك هذه الأجهزة ورجال الدولة العميقة، ثم إجبارهم على تحقيق المطالب الثورية، ولعل الذي تابع تكتيك المجلس العسكري في مواجهة الثورة يدرك بسهولة كيف أنه استفاد من سماحة الثوار وسلامة نواياهم، خصوصا فيما تعلق باعتقادهم في أن الجيش معهم، حتى أن الثوار في كافة الميادين كانوا يتفادون الهتاف ضد المجلس العسكري وقيادات الجيش، بل كان الهتاف الغالب في الميادين هو ” الجيش والشعب أيد واحدة ” بالرغم من أن كل قيادات المجلس العسكري وعلى رأسهم وزير الدفاع المشير حسين طنطاوي هم من اختيار مبارك الذي قامت عليه الثورة، وقد ظهر تكتيك المجلس العسكري من خلال تصريحاته وبياناته، التي حرص فيها على امتصاص حالة الغضب الجماهيري، وإطالة أمد النقاشات مع الثوار قدر المستطاع، فهو يدرك أن عنصر الوقت سيكون في صالحه وليس في صالح الثوار، فكل لحظة تمر من عمر الثورة يكسب فيها المجلس العسكري ودولته العميقة أرضا جديدة، نحو إفشال الثورة، والثورات تؤكل نيئة، والانتظار لإنضاجها، معناه الفشل، فكلما كانت حركة الثوار سريعة ومباغتة، كلما كان ارباكهم للأجهزة الأمنية أسرع وأكبر، لأن رجل الأمن الذي يواجه الثائر في الشارع لا يتحرك إلا بتعليمات رئيسه الأعلى، ورئيسه الأعلى، ينتظر تعليمات من فوقه، وهكذا، وهو ما يتطلب وقتا طويلا لتنفيذ أي قرار يتم اتخاذه، على عكس الثورة على الأرض، التي تتحرك بعفوية، ودون انتظار لتعليمات، وكلها أمور كان يدركها المجلس العسكري، لذا كان حريصا دائما على إطالة أمد الحوارات والمناقشات مع الثوار، وهو أمر كان من الواجب إدراكه مبكرا.
نكمل في المقال القادم بإذن الله تعالى.