أحمد سعد يكتب: العسكر والإخوان.. وأخطاء يناير (12)
أحد أهم الأخطاء التي ارتكبتها القوى السياسية في ثورة 25 يناير 2011، هي أنها تعاملت مع الثورة على أنها معركة سياسية شريفة، في مواجهة سلطة قامت عليها الثورة، وأنه يكفي للفوز في هذه المعركة، الاحتكام إلى رأي الشعب عبر الصناديق الانتخابية لاختيار من يمثله في إدارة الدولة!!
نسيت تلك القوى، أن هذه السلطة التي خرج عليها الشعب بسبب فسادها، هي نفسها السلطة التي تهيمن على الوطن منذ ستة عقود كاملة، وهي التي تحتكر موارده، وتتقاسم خيراته، وأنها طوال هذه السنين لم تكتف بحلب الوطن ومص دم شعبه، إنما كانت تعمل جنبا بجنب، على حشد الأسلحة، وإعداد القوة، ومحاصرة السياسة، وخنق السياسيين، تفاديا لوقوع الثورة، وإذا ما غافلتهم الثورة وخرجت كما حصل في 2011، تكون هي جاهزة لمواجهتها، وقادرة على الإجهاز عليها في التو واللحظة، وهذا ما حصل بالضبط!!
ولا شك أن عدم إدراك القوى السياسية لهذا المفهوم، وأنها كانت في مواجهة سلطة رفعت منذ اللحظة الأولى للثورة شعار «يا قاتل يا مقتول» وأنه يجب على هذه القوى أن تتخذ كل الاحتياطات لحماية نفسها وحماية ثورتها، إلا أنها أخطأت الحساب والتقدير، فراحت تتعامل مع هذه السلطة بحسن نية وسلامة قصد، وقد رأينا كيف أن السلطة استغلت هذه السذاجة، فراحت تفرض كلمتها وقرارها على الجميع، بل وفرضت أسلوبها السياسي الذي يناسب تكتيكها وطريقة لعبها، فظلت طوال الوقت تتلاعب بكل القوى السياسية، وتستدرج رموزها وقياداتها من حيث لا يعلمون إلى مصيرهم المحتوم، وهو التخلص منهم جميعا، ثم التنكيل بهم، كما رأينا، ومازلنا نرى إلى الآن!!
لم تفطن القوى السياسية إلى أن قواعد وأدبيات الثورات تقضي بأن المواجهات الثورية التي تقع بين الثوار والسلطة الحاكمة، هي مواجهات صفرية، لابد أن تٌحسم بانتصار طرف من الطرفين، فهي ليست كمباريات كرة القدم التي تقام بنظام الذهاب والإياب ويمكن أن تنتهي بتعادل الطرفين..
وحتى مع تسليمنا بأن الحق دائما ما يكون في صف الثوار، باعتبار أن الثورات لا تقوم إلا للإصلاح وإزالة الأنظمة الفاسدة، وبالتالي تكون معاركهم شريفة القصد وسليمة التوجه، إلا أن فشلهم في تحقيق أهدافهم الثورية، يعني بلا شك الحكم عليهم بالإعدام، ومن ثم يجب عليهم أن يقرروا مصيرهم من البداية قبل خوض الثورة، فإما النصر أو الهلاك!!
وعلى الرغم من أن السلطة المصرية ممثلة في العسكر، لم تُظهر لثوار يناير العين الحمراء من اللحظة الأولى للثورة كما يحدث في معظم الثورات، إنما واجهتهم بخطط وأدوات سياسية، وهو أمر كان المفترض أن يصب في مصلحة القوى السياسية، نظرا للفوارق الثقافية بين رموزها الفكرية وضباط الجيش، إلا أنه ومع ذلك نجح العسكر في حسم معظم الجولات السياسية أمام تلك القوى، صحيح العسكر لم ينجح في التأثير على رأي الشارع وقت الاحتكام للصندوق في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة، لكنهم تمكنوا من تحقيق مكاسب سياسية عديدة، كانت سببا في التمهيد للانقلاب على الثورة، وكان أول وأهم هذه المكاسب، هو النجاح في إحداث الوقيعة بين القوى السياسية المختلفة مبكرا جدا بالدعوة لاستفتاء 19 مارس، كما ذكرنا في أكثر من مقال سابق!!
وما من شك في أن النجاح السياسي الذي تحقق للعسكر مبكرا وتفريقهم بين القوى السياسية، هو الذي جعلهم يثقون في قدرتهم على حسم أي مواجهة مع الثوار حتى وإن طال الأمد، كما أن هذا النجاح جعلهم يستشعرون من البداية، سهولة مواجهاتهم الميدانية والسياسية مع الثوار والقوى السياسية، ومن ثم راحوا يمارسون معظم ألاعيبهم السياسية علنا وفي وضح النهار، وقد ساعدهم في ذلك – كما قلنا – سذاجة القوى السياسية، وحسن ظنهم برجال ورموز الثورة المضادة، حتى أن بعضا من هذه القوى (الليبراليين خصوصا) راحوا يرتمون في أحضان العسكر، بل منهم من طالب، بنزول العسكر للشارع، بدعوى تخليصهم من حكم الإخوان!!
كل هذه الأسباب وغيرها هي التي سهلت مهمة العسكر في تنفيذ مخطط الانقلاب، وهي أيضا التي هيأت الطريق أمام التخلص من جميع القوى السياسية، ليس الإخوان فحسب، وإنما من كل من كان له دور في ثورة يناير، بما في ذلك القوى التي كانت قد ارتمت في أحضانهم، بيد أن هذه الأسباب لم تكن وحدها، التي أسهمت في نجاح خطة الانقلاب، إنما كانت هناك بعض التصرفات الأخرى التي لجأوا إليها، لاختبار انقلابهم، وكانت هذه التصرفات أشبه برسائل وإشارات لجس نبض الرأي العام تجاه قيامهم بالانقلاب، وأيضا للتعرف على رد فعل الثوار والقوى السياسية تجاهها، ومن ثم تحديد الطريقة والزمان المناسبين لتنفيذ خطتهم النهائية، ورغم أن كل هذه الرسائل والإشارات كانت جلية وكاشفة عن وجود مخطط للانقلاب، إلا أن القوى السياسية لم تحسن مواجهتها أو الرد عليها، بل إن بعضا من هذه القوى رحب بها ودعمها، حتى جماعة الإخوان المسلمين التي كانت هي المستهدف الأول من الانقلاب باعتبارها الجماعة السياسية التي نجحت في الوصول للحكم، لم تحسن أيضا تقدير الموقف، وتفهم المقصود من هذه الرسائل، وتتعامل معها بما يناسب خطورتها، وبما يجنب رئيسها الانقلاب عليه، فمسؤولو الإخوان وقتها، كانوا بين فريقين، الأول مبهور ببريق السلطة ومعتقد أنها دانت إليه، وأخر مخدر بوهم الثقة في رجال القوات المسلحة، وإخلاص قياداتها، وأنه يستحيل عليهم الانقلاب على السلطة.. وفي السطور التالية نذكر بعضا من هذه الرسائل والإشارات، التي استخدمها العسكر للتمهيد لانقلابه، ولم يفهما الإخوان أو من كانوا في الحكم!!
هروب مرتضى منصور.. ولسان توفيق عكاشة
رسائل وإشارات العسكر الدالة على وجود مخطط للانقلاب على ثورة يناير، ظهرت – كما أشرنا في مقالات سابقة – مبكرا جدا، وإذا كانت تلك الرسائل ظهرت بشكل أكبر في فترة حكم الرئيس مرسي، إلا أن من كان يدقق في المشهد، كان يرى أن رجال العسكر أظهروا عداءهم للثورة منذ يومها الأول، حتى وإن اعتقد الناس غير ذلك، أو تظاهر العسكر بشيء أخر، وقد ظهر هذا العداء جليا في المحاولة الفاشلة لفض ميدان التحرير في الموقعة الشهيرة المعروفة باسم “موقعة الجمل ” وهي المحاولة التي قام بها عدد كبير من البلطجية، عندما اقتحموا الميدان على ظهور الخيول والجمال يحملون في أيديهم الجنازير والأسلحة البيضاء، بهدف الاعتداء على المعتصمين وإخلاء الميدان منهم، ولم يكن خافيا على الكثيرين أن هذه العملية تمت بدعم ورعاية من شخصيات لها علاقات وثيقة بالعسكر، من بينهم الفريق أحمد شفيق، كما أشار البعض إلى ضلوع عبد الفتاح السيسي أيضا في عمليات التحريض، أما المتهمون الرئيسيون في القضية فجميعهم من رجال الأعمال المحسوبين على الدولة العميقة، وعلى نظام مبارك أيضا، حيث كان جميعهم أعضاء في مجلس الشعب الذي تم حله بعد قيام الثورة..
وعداء العسكر لثورة يناير وضيق صدره بالثوار، ظهر أيضا في تعامله الخشن والعنيف مع الأقباط الذين اعتصموا أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون «ماسبيرو» ذلك الاعتصام الذي تم فضه بالأسلحة النارية وراح ضحيته 23 مواطنا قبطيا، ولذا سميت تلك الحادثة بـ«مذبحة ماسبيرو» وقد سبقها مذبحة أخرى كانت أبشع وأشنع، ألا وهي مذبحة شارع محمد محمود والتي سقط ضحيتها 40 متظاهرا، وأصيب فيها نحو ثلاثة ألاف أخرين، وغير ذلك من المذابح التي وقعت في تلك الفترة، والتي دلت على مدى كراهية العسكر للثورة ورغبتهم المعلنة في الإجهاز عليها، وكلها كانت مقدمات للانقلاب، واختبارا لرد فعل الناس والسياسيين قبل التنفيذ النهائي للمخطط!!
وتباعا توالت الرسائل والإشارات التي تكشف عن نية العسكر في الانقلاب على الثورة ومكتسباتها، وقد بدا هذا جليا في عدم جدية الدولة العميقة، في محاكمة الرئيس الراحل المخلوع حسني مبارك ونجليه علاء وجمال، تلك المحاكمة التي كانت أقرب إلى التمثيلية المكشوفة المؤدية حتما إلى براءتهم جميعا، والحال كذلك في محاكمات كل الوزراء الفاسدين بنظام مبارك ممن ضمتهم حكومة أحمد نظيف، وهي الحكومة التي قامت عليها الثورة، وجميعهم أيضا حصلوا على أحكام بالبراءة في كل التهم التي وجهت إليهم، ونفس الأمر حصل مع كل رجال الأعمال أعضاء الحزب الوطني المنحل الذين حرضوا على قتل المتظاهرين في «موقعة الجمل» سالفة الذكر، والذين كان عددهم 24 برلمانيا سابقا هم: فتحى سرور، وصفوت الشريف، وماجد الشربيني، ومحمد الغمراوي، ومحمد أبو العينين، وعبد الناصر الجابري، وشريف والي، ووليد ضياء الدين أمين، وأحمد مرتضى منصور، وعائشة عبد الهادي، وحسين مجاور، وإبراهيم كامل، وأحمد شيحة، وحسن تونسي، ورجب هلال حميدة، وطلعت القواس، وإيهاب العمدة، وعلى رضوان، وسعيد عبد الخالق، ومحمد عودة، وحسام الدين ومصطفى حنفي، وهاني عبد الرؤوف، بالإضافة إلى مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك السابق، ونجل شقيقته وحيد صلاح جمعة واللذين تم محاكمتهما غيابيا لاختفائهما بعد إحالة القضية للمحكمة، وكلاهما حصل على البراءة أيضا، وقد كشفت تلك القضية بالتحديد الدور الخفي الذي كانت تلعبه الدولة العميقة ممثلة في العسكر، في إجهاض الثورة، فبعيدا عن التواطؤ مع النيابة في عدم تقديمها أي أدلة اتهام تستند إليها المحكمة في تلك القضية، فقد كان هناك دعم واضح لوزارة الداخلية، في تسترها على اختفاء أحد أبرز المتهمين وهو مرتضى منصور، والذي كان قد صدر قرارا من محكمة الجنايات بضبطه وإحضاره، إلا أنه اختفى تماما بعد صدور القرار، كما لم تبذل وزارة الداخلية أي مجهود للقبض عليه وتنفيذ قرار المحكمة، بل تسترت على اختفائه، وقد جاء تستر الداخلية على اختفاء مرتضى منصور تحديدا من بين كل المتهمين، لكونه المتهم الوحيد بالقضية، الثابتة عليه تهمة التحريض على قتل المتظاهرين، فقد ظهر مرتضى قبل 72 ساعة فقط من عملية اقتحام البلطجية لميدان التحرير، وهو يلقي كلمة من على «منصة ميدان مصطفى محمود» بحي المهندسين، وهي المنصة التي أقامها مؤيدو الرئيس المخلوع وأنصار الثورة المضادة، والتي قال فيها نصا «أنا قلت امبارح في التليفزيون، هناك فرصة لغاية يوم الخميس الساعة 12 الظهر، العيال الصيع اللي هناك دول – يقصد الثوار بميدان التحرير – لو ما مشيوش هنروح نطلعهم بالجزم يقصد الأحذية» وكان يوم الخميس هذا الذي ذكره مرتضى، يوافق الثالث من فبراير 2011 وهو اليوم التالي لموقعة الجمل والتي تمت يوم الأربعاء 2 فبراير، فهذا الدليل القاطع على تحريض مرتضى ضد الثوار، هو الذي جعل وزارة الداخلية تتستر على اختفائه وترفض تنفيذ قرار المحكمة بالقبض عليه، وقد برر مسؤولو وزارة الداخلية هذا التقاعس عن تنفيذ القانون وقتها، بأن مرتضى كان يختبئ بمنزل زوج ابنته هشام الرفاعي والذي يعمل مستشارا بالسلك القضائي، وأن هناك حصانة يتمتع بها القضاة، تمنع الشرطة من مداهمة منازلهم، لكن تكتمل فصول هذه المسخرة عندما علم الناس أن مرتضى لم يكن مختبئا بمنزل زوج ابنته كما كانت تقول الداخلية، إنما كان موجودا بمنزله الكائن بشارع أحمد عرابي بالمهندسين، وهو ما أعلنه مرتضى بنفسه بعد الانقلاب على الثورة وتبرئته ومعه كل المتهمين وغلق ملف القضية، كما أغلقت ملفات كل قضايا قتل المتظاهرين، وقضايا الفساد التي فٌتحت بعد قيام الثورة!!
حادثة أخرى قريبة الشبه من حادثة تستر الداخلية على مرتضى منصور في «موقعة الجمل» حصلت مع الإعلامي السابق توفيق عكاشة «مالك قناة الفراعين سابقا» والذي تسترت وزارة الداخلية على اختفائه أيضا، لمنع تنفيذ قرار أصدره النائب العام باستدعائه للتحقيق معه في تجاوزاته الإعلامية في حق الرئيس محمد مرسي وأفراد عائلته، وترويجه للعديد من الأكاذيب عنهم، والتي كان منها على سبيل المثال لا الحصر، أن مرسي وعائلته يأكلون كميات كبيرة من البط تكلف خزينة الرئاسة سنويا حوالي خمسة ملايين جنيه، تلك الفرية التي كان يتندر بها عكاشة بعد الانقلاب على مرسي، حتى أن وسائل إعلام الثورة المضادة، كانت تلقبه بـ«إعلامي البط» هذا بخلاف اتهامه لمرسي بالخيانة العظمى، بل والتحريض على قتله إذا نزل ميدان التحرير، وغير ذلك من التصريحات التي كان يطلقها عكاشة ليل نهار ضمن خطة واضحة هدفها إهدار كرامة مرسي واغتياله معنويا، حتى أنه وصفه مرة بالرئيس «الأهبل الفاشل» وهي التصريحات التي جعلت عددا من محامي ومؤيدي مرسي يتقدمون ببلاغات ضده للنائب العام، وبالفعل أمر النائب بالتحقيق معه في التهم المنسوبة إليه، إلا أن عكاشة رفض الانصياع للقرار، كما أن وزارة الداخلية لم تتحرك لتنفيذ القانون وإلزامه بالمثول للتحقيق، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، إنما وصل إلى ظهور توفيق عكاشة في اليوم التالي على قناته «الفراعين» متحديا قرار النائب العام ومتحديا قرار المنطقة الإعلامية الحرة بوزارة الاستثمار بإغلاق القناة، بل متحديا الرئيس نفسه، حيث راح يُخرج للرئيس لسانه، في تصرف صبياني يحمل معنى الإغاظة والتشفي، ويؤكد من خلاله أيضا، عجز الرئيس عن محاكمته أو حتى مقاضاته!!
رسائل هيكل وكيسنجر قبل الانقلاب
والحقيقة أن الرسائل والإشارات والمواقف التي كانت تنبئ بوجود مخطط للانقلاب على ثورة يناير وعلى حكم الرئيس مرسي، كانت أكثر من أن تحصى أو تعد، ولعل كثرة حدوثها وتداعيها بشكل لحظي، هو الذي جعل البعض يستقبلها بلا مبالاة، والاستهانة بها في أغلب الوقت، لكن هذا وإن كان مقبولا في مواقف ربما لا تكون مؤثرة، ولا يلزم التعامل فيها بحزم وجدية، كتلك المواقف السابق ذكرها والخاصة بتستر أجهزة الدولة العميقة على مجرمين أو متهمين مثلما حدث في حالتي مرتضى منصور وتوفيق عكاشة، إلا أنه لا يكون مقبولا أبدا ولا يمكن السكوت عليه، بل يستوجب الرد عليه في حينه دون أي تأخير، إذا ما صدر عن شخصيات مهمة لها ثقلها السياسي وتربطها علاقات وثيقة بقيادات الجيش، من هؤلاء مثلا الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، والدبلوماسي الأمريكي الشهير هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا سابقا، ولعل الذي يراجع سلسلة الحوارات التي أجرتها الإعلامية لميس الحديدي مع محمد حسنين هيكل بقناة «cbc» في فترة حكم الرئيس مرسي وقبلها، يجد هيكل وقد ألمح عشرات المرات لوجود مخطط انقلاب عسكري على الثورة ثم على الرئيس مرسي، حتى أن لميس الحديدي سألت هيكل وبشكل مباشر في إحدى الحلقات، عما إذا كان الرئيس مرسي يستطيع إقالة عبد الفتاح السيسي الذي كان يشغل وقتها منصب وزير الدفاع برتبة فريق أم لا؟ فجاء رد هيكل سريعا وحاسما بأنه صعب جدا، لتسأله لميس ثانية: ولماذا صعب جدا؟ فيرد هيكل بما يعني أن مرسي ليس لديه شرعية لاتخاذ قرار كهذا قائلا إن مرسي ليس لديه شرعية، وفلسف هيكل هذه الإجابة بقوله إنه – أي مرسي – لديه مشروعية وليست شرعية، وإذا كان مرسي قد جاء بالصندوق، فالصندوق نتيجة وليس مقدمة، مشيرا إلى أن الصندوق عمره ما دل على شيء، خصوصا ووفقا لرأي هيكل وأن من انتخبوا مرسي ذهبوا جيوشا مجيشة لديهم أوامر وتعليمات بانتخابه، بل وبالتزوير أيضا إذا أردت!!
وبعيدا عن انكار هيكل لشرعية مرسي في وقت حكمه، إلا أن مجرد التطرق لموضوع حساس كهذا يمس خصوصية العلاقة بين رئيس الدولة ووزير الدفاع، ويتم إذاعته على واحدة من أهم القنوات الفضائية في تلك الفترة، بل ويخرج عن كاتب صحفي في حجم وقيمة وتاريخ هيكل، فهو أمر كان يستوجب على الرئيس مرسي أن يحقق فيه وبنفسه، ليعرف ما هي الدوافع التي تجعل إعلامية بشهرة لميس الحديدي تسأل كاتبا بحجم هيكل سؤالا كهذا، بل السؤال الأهم من ذلك، ما هو الدافع لفتح ملف كهذا، يتناول طبيعة العلاقة بين رئيس الجمهورية ووزير الدفاع، خاصة وأن الأمر مناقشة الأمر لم يكن عابرا أو وليد اللحظة، إنما بدا مخططا له ومقصودا، حيث أن معظم وقت الحلقة الممتد لقرابة الساعتين، وهي الحلقة التي تحمل رقم (8) من سلسلة لقاءات لميس مع هيكل لمن أراد الرجوع إليها، تم تخصيصها للحديث عن طبيعة العلاقة بين مرسي والسيسي، وهي قضية لم يسبق للإعلام أن تناول مثلها على مر التاريخ، كما لا يستطيع هيكل أو غيره التطرق إليها في وجود أي رئيس أخر، كما أنها قضية ما كان للميس الحديدي أن تبحثها مع هيكل إلا إذا كان هناك سر وراء طرحها، خصوصا وأن ظاهر العلاقة بين مرسي والسيسي لم يكن يشير لوجود أزمة بينهما، ومن ثم لا يوجد ما يدعو لطرح القضية من الأصل، والظاهر للناس وقتها كان يشير إلى أن العلاقة بين الرئيس ووزير دفاعه على ما يرام، والتصريحات التي كان يطلقها مرسي دائما ما كانت تؤكد على ثقته العمياء في السيسي وفي كل رجال القوات المسلحة، لذا كان لابد وأن يثير الأمر شكوك وتوجسات الرئيس مرسي، وأن يتحرك ليعرف ما هو الهدف من وراء مناقشة قضية حساسة كهذه على الهواء وأمام الملايين من المشاهدين، ولولا أن الموضوع جاء على هوى السيسي ومسؤولي المؤسسة العسكرية، لكان الواجب عليهم التحرك قبل مرسي لمعرفة الدافع لطرح قضية كتلك، خاصة وأن صيغة السؤال التي وجهتها لميس لهيكل (هل يستطيع مرسي إقالة السيسي؟) كانت تحمل إهانة للسيسي، وتشكك في جدارته بالتواجد في منصب وزير الدفاع، ومن ثم يمكن للرئيس أن يفكر في إقالته، لكن يبدو كما أشرنا أن مناقشة الموضوع كانت على الهوى والمزاج، ولذلك لم تٌغضب أحدا من مسؤولي الجيش، بل إن طرح الموضوع وفتح النقاش حوله بدا وكأنه كان متفقا عليه مسبقا بين الثلاثة (السيسي – هيكل – لميس) والهدف هو معرفة رد فعل مرسي تجاه المؤامرات التي كان يحيكها السيسي ضده في ذلك الوقت، خاصة وأن هذه الحلقة أذيعت في الحادي والعشرين من مارس 2013 أي قبل أربعة شهور فقط من انقلاب 3 يوليو.. والحقيقة أن من يتابع سلسلة الحوارات التي أجرتها لميس مع هيكل في تلك الفترة، يجدها مليئة بالإشارات والرسائل التي تؤكد أن مخطط الانقلاب يسير بنجاح، خاصة وأن كثيرا من التصريحات التي أدلى بها هيكل للميس في تلك الحلقات كانت عبارة عن نقل لمعلومات أو تصريحات حصل عليها من كبار مسؤولي الجيش، من ذلك مثلا نقله عن المشير طنطاوي قوله قبل أيام قليلة من إعلان فوز مرسي بانتخابات الرئاسة أنه – أي طنطاوي – لا يريد أن يقال عنه إنه سلم البلد للإخوان، وهو وإن كان فعل وترك مرسي يتسلم الحكم، فهو لم يفعله إلا بعد الاستقرار على تنفيذ مخطط للانقلاب عليه، كما نقل هيكل عن السيسي موقف الجيش من حماية شرعية الرئيس، وكان الموقف سلبيا بطبيعة الحال، حيث أكد هيكل نقلا عن السيسي دعمه الكبير للقوى السياسية الرافضة لاستمرار مرسي، ذلك الدعم الذي ظهر جليا في التصريحات التي أطلقها السيسي في الندوة التي عٌقدت بمسرح الجلاء للقوات المسلحة بالثالث من ديسمبر 2012، وهي الندوة التي أقيمت تحت عنوان “القوات المسلحة والشرطة جناحا الأمن للأمة” وقال فيها السيسي إن الجيش والشرطة لن يسمحا بترويع وتفزيع الشعب المصري، تلك التصريحات التي حملت رسائل طمأنة للقوى السياسية المعادية للإخوان ولحكم الرئيس مرسي، بأن الجيش والشرطة سيقفان في ظهرها وحمايتها في ثورتها ضد مرسي، وهي تصريحات كان لها أبلغ الأثر في زيادة حدة الغضب ضد مرسي والإخوان، وهي أيضا التي تسببت في ذهاب الجماهير إلى قصر الاتحادية ومحاولة اقتحامه لاغتيال الرئيس، وهي الأحداث التي تسببت في سقوط ثمانية قتلى معظمهم من مؤيدي مرسي، بخلاف إصابة المئات..
أما بالنسبة لتصريحات هنري كيسنجر والتي أطلقها في نفس الفترة تقريبا خلال مشاركته بالمؤتمر السنوي لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في نيويورك، فقد حملت إشارات غاية الوضوح بأن انقلابا عسكريا ضد الرئيس مرسي في طريقه للتنفيذ، حيث أكد كيسنجر على وجود خلاف شديد بين الجيش والسلطة الحاكمة، وأن العلاقة بين الرئيس مرسي ووزير دفاعه عبد الفتاح السيسي، ليست على ما يرام، وأن القوات المسلحة غير راضية على وجود مرسي وحكمه للبلاد، فمن أين جاء كيسنجر بمثل هذه المعلومات الخطيرة والحساسة للغاية، خاصة وأنه لم يكن هناك شيئا ظاهرا يدعو للتنبؤ بوجود أزمة، لا سيما وأن العلاقة بين مرسي والسيسي – كما أشرنا بالأعلى – تبدو على ما يرام ولا يوجد ما يعكر صفوها؟ فلماذا أطلقها ومن وراؤها؟ هذا ما كان يجب على مرسي ومن حوله أن يسألوا عنه ويأخذونه مأخذ الجد، ويتعاملون معه بمنتهى الأهمية، خاصة وأنه صادر عن سياسي أمريكي مخضرم، فضلا عن علاقاته الواسعة بأنظمة وقيادات جيوش منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا مصر التي ظل يوليها اهتمامه الكبير حتى وفاته 2023، واهتمامه بمصر ليس حبا فيها إنما خوفا منها على إسرائيل، باعتباره يهودي الديانة، وصهيوني التوجه، فهو من يهود ألمانيا الذين خرجوا منها في حقبة الثلاثينات هربا من الحكم النازي، أضف إلى ذلك أن كبار المسؤولين والساسة الأمريكان من عينة كيسنجر يعرفون عن مصر وأحوالها السياسية أكثر مما يعرف المصريون أنفسهم عنها، وبالتالي فإن معلومات كيسنجر صحيحة، أو يوجد ما ينبئ بصحتها، لذا كان واجبا على مرسي أن يدعو المجلس العسكري لمناقشتهم فيها، ولو كانت غير صحيحة، فوجب عليهم مطالبة كيسنجر بنفيها، ولو لم يكن كذلك فوجب على مرسي أن يسارع بالإطاحة برؤوس الفتنة بالجيش وعلى رأسهم السيسي، وأن يتغدى بهم قبل أن يتعشوا به، لكنه رحمة الله عليه لم يفعل!!
نكمل في الحلقة القادمة بإذن الله