أحمد سعد يكتب: العسكر والإخوان.. وأخطاء يناير (3)
كان تنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم يوم الحادي عشر من فبراير 2011، بمثابة الفخ الذي نُصب للقوى السياسية المشاركة في ثورة 25 يناير، ووقع فيه الجميع!!
فكما أشرنا في المقال السابق إلى أن تنحي مبارك عن الحكم كان مخططا أمريكيا، عٌهد به للمجلس العسكري لإدارته وتنفيذه، ذلك المخطط الذي كان يقضي بتلبية المطلب الرئيسي – وربما الوحيد – للثوار وهو إسقاط مبارك، بينما كان المهم عندهم «الأمريكان والمجلس العسكري»، هو عدم المساس بباقي النظام، تمهيدا لإعادته للحكم مرة ثانية، بعد الانقلاب على الثورة!!
وبالفعل نجح الأمريكان والعسكر -بتنحية مبارك عن الحكم- في صرف نظر الثوار عن تحقيق المعنى الحقيقي والكامل لشعار «الشعب يريد إسقاط النظام» فهم كانوا يدركون ما لم يدركه الثوار، بأن مبارك لم يكن أبدا هو النظام الحاكم للدولة المصرية، الذي ستنتصر الثورة بسقوطه، أو حتى بشنقه، إنما كان مجرد واجهة يتخفى خلفها النظام الحقيقي، وأصل النظام وسلطانه، هو الذي يعشش في كل أركان الدولة وليس في القصور الرئاسية، والجيش هو مركز قيادته، وعقله المدبر، وكلمته المسموعة، التي لا يتحرك النظام إلا بها، ولذلك فلا تثريب علينا وعليكم في القول بإن الجيش هو الحاكم الفعلي لمصر منذ انقلاب يوليو 1952، يقودها كيفا شاء، عن طريق دولته العميقة، على امتداد تاريخها وعمق جذورها، من مؤسسات، ووزراء، وسفراء، وكبار مسؤولين، ورجال دين، ورجال أعمال، وسياسيين، وإعلاميين، ومثقفين، وفنانين، ورياضيين، وبلطجية أيضا، ولو أن القوى السياسية وعت ذلك جيدا، وفهمت أن تنحي مبارك كان مجرد حلقة، هي الأضعف، في سلسلة طويلة من الحلقات شديدة الصلابة والمتانة والتماسك، مثبتة في وتد ضارب في الأرض بعمق ستين سنة، وأن الإطاحة به لا يجب أبدا اعتبارها نهاية مطاف يتوقف عنده الطموح الثوري كما حدث، إنما النهاية الحقيقية تكون بإسقاط كامل النظام، وخلع الوتد من جذوره.. فلو أننا أدركنا ذلك، لتغيرت الأمور رأسا على عقب، ولربما حسمت الثورة معركتها من أول جولاتها!!
والحقيقة أن كل القوى السياسية التي شاركت في الثورة، مسؤولة عن هذا الخطأ، لكن أول من يجب أن يسأل عنه ويلام فيه ويحاسب عليه هو جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها هي الجماعة السياسية الأقدم والأعرق والأكثر ممارسة سياسية والأكبر عددا بين كل القوى السياسية التي شاركت في الثورة، فضلا عن أن قياداتها وأعضائها ومحبيها، هم من كانوا يقودون الثوار في الشارع، ومن ثم كانت مسؤوليتهم السياسية والتاريخية أكبر من أي فصيل سياسي أخر، ولا شك أن هذه المكانة هي التي جعلت الإخوان المسلمين، يتحملون النصيب الأعظم من فاتورة أخطاء يناير، كما حدث لاحقا في الانقلاب العسكري 3 يوليو 2013، كما سنذكر في مقالات قادمة بإذن الله..
التحول من الفعل إلى رد الفعل
بعد تنحي مبارك عن الحكم، جاءت الأحداث لتثبت أن كل شيء كان معدا بعناية فائقة، للانقضاض على الثورة والإجهاز عليها، وهو دور تولاه المجلس العسكري ولعبه بمهارة سياسية يحسد عليها، فبمجرد أن انتقلت إليه سلطة الحكم، حتى بدأ حيله السياسية الخبيثة، والذكية أيضا، تلك الحيل التي مكنته من التحكم في القوى السياسية كيفما شاء ووقتما أراد، فلم تمض ساعات على تنحي مبارك، حتى نجح المجلس العسكري في أن يحول كل القوى السياسية، من فعل يجب أن يقوم بمحاسبة الحاكم ونظامه، إلى رد فعل للقرارات الصادرة عنه، وليس للقوى السياسية سوى أن يقبلوا هذه القرارات أو يعارضوها، وقد يؤخذ برأيهم أو لا يؤخذ، لتصبح العلاقة بين المجلس العسكري والثوار علاقة حاكم بمحكوم، وليست علاقة ثورة بسلطة، دور الثوار فيها محاسبة ومحاكمة هذه السلطة، على ما ارتكبته من جرائم وفساد استمر ثلاثة عقود كاملة، وقد رأينا كيف انقلبت المعادلة بين الطرفين، بعد القرارات التي أصدرها المجلس العسكري بمجرد تسلمه السلطة، والتي كانت تجئ في بيانات عسكرية، مثل تعيين الحكومة أو إقالتها، أو إصدار الوثائق السياسية، مثل وثيقة المبادئ فوق الدستورية «وثيقة السلمي» التي صاغها الدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء في ذلك الوقت بتحريك من المجلس العسكري، وهي الوثيقة التي فجرت حالة واسعة من الغضب بين الثوار، فخرجت الملايين لرفضها، وغير ذلك من المواقف التي أكدت قوة المجلس العسكري وتمكنه من إدارة الثورة، والتحكم في بوصلتها!!
ولم يكتف المجلس العسكري بالقفز فوق سلطة الثورة، وإصدار ما يراه من قوانين وقرارات تخدم أهدافه ومصالحه، بل راح يرسم للثوار مستقبلهم ويحدد لهم خارطة طريقهم التي يسيرون عليها، فبعد يوم واحد من تنحي مبارك، أصدر المجلس العسكري بيانه المهم جدا، والذي رسم من خلاله خطة العمل التي سيسير عليها الثوار للمستقبل، وهو ما أكده البند الخاص بإجراء بعض التعديلات على دستور 71 والاستفتاء عليها، وإجراء انتخابات رئاسية في ضوء هذه التعديلات، وجاء تقبل الثوار لهذا البيان والتفاعل مع تفاصيله، بمثابة رسالة طمأنة للعسكر والدولة العميقة والأمريكان أيضا، بأن خطتهم التي وضعوها للثوار، تسير بنجاح كما هو مخطط لها ، وأن دفة قيادة الثورة آلت إليهم، وبوسعهم الآن التحكم في الثوار والتلاعب بمواقفهم، ولم تكن الكارثة هنا بابتلاع الثوار لهذا الطٌعم، إنما الكارثة الحقيقية كانت في الشرخ الذي أحدثه ذلك البيان في الصف الثوري، ذلك الشرخ الذي لم يلتئم حتى اللحظة الراهنة، فوقتها انقسم الثوار بين مؤيد ومعارض لما جاء في البيان، وقد بلغ الانقسام مداه، بالخلاف على تنفيذ أحد أهم بنود هذا البيان وهو الخاص بإجراء استفتاء شعبي للتصويت على ما إذا كان الانتخابات تجري أولا، أم الدستور يصدر أولا، ذلك الاستفتاء الذي جرى يوم 19 مارس 2011، وقد استغل المجلس العسكري هذا الانشقاق، ليبدأ خطته الجديدة، في استقطاب القوى السياسية، وتحريضها على بعضها البعض، لتشتعل الأمور، وتنحرف الثورة عن مسارها الثوري وتتفرغ القوى الثورية لصراعاتها السياسة، ويتفرغ المجلس العسكري مع الدولة العميقة في حياكة المزيد من المؤامرات، لإنهاك الثوار، والقضاء على الثورة!!
لهفة الإخوان على السلطة!!
جماعة الإخوان المسلمين هي الفصيل السياسي الوحيد في ذلك الوقت، الذي كان بإمكانه إعادة المسار الثوري إلى طريقه الصحيح مرة ثانية، وذلك للأسباب التي ذكرناها سالفا، لكن وبكل أسف الإخوان كانوا أيضا من بين الذين انخدعوا في المجلس العسكري وموقفه من الثورة، فانجرفوا مع المنجرفين وراء الوهم الذي ساقهم إليه المجلس العسكري بأنه يشاركهم الرغبة والطموح في التحول الديمقراطي المنشود، وأنه جاد وصادق في نيته بالخروج من المشهد السياسي بعد تسليم السلطة للرئيس المدني القادم، فقد شارك الإخوان -بحسن نية وربما سذاجة سياسية- في معركة الاستفتاء على الدستور وكانوا هم المتزعمين للتصويت بـ«نعم» لإجراء الانتخابات أولا قبل الدستور، في مواجهة من قالوا «لا» للانتخابات قبل الدستور،
والكارهون للإخوان وأصحاب النوايا السياسية السيئة ذهبوا إلى القول بإن موقف الإخوان من الاستفتاء في ذلك الوقت، تم باتفاق وتنسيق كاملين مع المجلس العسكري، واستندوا في ذلك إلى الكثير من المواقف التي تشير لوجود تنسيق غير معلن بين الجماعة والعسكر، وإذا ما سلمنا بصحة ذلك وافترضنا أن المجلس العسكري استدرج بالفعل الإخوان لهذا المنزلق، فأنا لا استبعد أيضا أن تكون القوى السياسية الأخرى المعارضة للإخوان، كانت على اتفاق وتنسيق مع المجلس العسكري أيضا، خاصة وأن الكثير من القوى الأخرى خاصة الليبرالية، كانت تغازل العسكر، وتتطلع للتسلح به في مواجهة قوى الإسلام السياسي، وهي القوى التي بدت الأكبر والأقوى والأكثر تأثيرا في الشارع، ومن ثم الأكثر حظوظا في الفوز بأي انتخابات قادمة، لكن وفي نفس الوقت فالأمانة تقتضي الإقرار بأن موقف الإخوان في الدعوى للتصويت بـ«نعم» في الاستفتاء، لم يخل من انتهازية سياسية، لأن الإخوان كانوا يتعجلون الوصول للسلطة، وكانوا يترقبون الانتخابات -أي انتخابات- بفارغ الصبر، فهم يدركون مدى قوتهم الانتخابية، وقدرتهم على حسم أي انتخابات لصالحهم، وقد كشفت مواقفهم في تلك الفترة عن لهفة واضحة لتولي السلطة، لذا اندفعوا بمنتهى القوة، والغشم أيضا، نحو حرق مراحل الثورة للوصول إلى السلطة بمواقعها المختلفة من رئاسة ومجالس نيابية، بصرف النظر عما إذا كان ذلك في صالحهم وصالح الثورة أم لا، بل ودون أن ينتبهوا لما كان يخبئه لهم المجلس العسكري من مكر وخديعة، وما تحيكه ضدهم الثورة المضادة من مؤامرات داخليا وخارجيا لتشويههم وتأليب القوى السياسية الأخرى والرأي العام عليهم، وهو ما تحقق بالفعل لاحقا، بعدما رأينا المجلس العسكري وقد وضع لهم في كل قانون خاص باستحقاق انتخابي قادم ثغرة قانونية، بهدف إبطاله والانقلاب عليه في اللحظة المناسبة، وهو ما حدث فعليا في كل الاستحقاقات الانتخابية التي فاز بها الإخوان، حيث رأينا قضاة المجلس العسكري من رجال الدولة العميقة وقد أبطلوها جميعا، وسلبوا الإخوان كل الانتصارات التي حققوها، مثلما حدث في مجلس الشعب الذي بدأ دورته في فبراير 2012، وتم حله بعد أربعة أشهر فقط، وهو المجلس الذي كان رئيسه وغالبية أعضائه من الإخوان، وكذلك اللجنة التأسيسية الأولى للدستور التي تم حلها في أبريل 2012، قبل أن يتم تشكيلها مرة ثانية في يونيو من نفس العام، ثم كانت الضربة الأخيرة والقاتلة بإلغاء دستور 2012، والانقلاب على الرئيس المدني الإخواني الدكتور محمد مرسي في يوليو 2013، بعد سنة واحدة من حكمه!!