بحوث ودراسات

أحمد سعد يكتب: العسكر والإخوان.. وأخطاء يناير (4)

قبل البدء في الحلقة الرابعة من سلسلة مقالاتنا عن أخطاء ثورتنا المصرية (25 يناير 2011) وجب علينا الاعتراف والإقرار، بأن الانقلاب على الثورة المصرية، بل وعلى باقي ثورات الربيع العربي (تونس وليبيا وسوريا واليمن) كان أكبر وأعنف وأصعب من التغلب عليه أو حتى منازلته، وذلك لأكثر من سبب، أولهم أن شعوب تلك الدول حديثة عهد بالثورة على أنظمتها الحاكمة، فالثورات السابقة كانت إما ضد استعمار أجنبي، أو انقلابات عسكرية قام بها مجموعة من الضباط الطامعين في السلطة، وأطلقوا عليها بالزور والسلاح ثورات، ثانيهم أن شعوب تلك البلدان ظلت محرومة لسنوات طويلة من أي ممارسة سياسية تُعدها وتُصقلها لحدث كبير بحجم الثورة، بل إن الأجيال المختلفة التي شاركت في تلك الثورات لم يسبق لها ممارسة سياسية حقيقية تمكنها من الاستعداد والتأهب للتعامل مع الثورة إذا قامت، ومن ثم كان الرابط المشترك بين جميع القوى السياسية في كل هذه الثورات، هو الافتقاد للخبرات التي تمكنها من مواجهة الأنظمة العسكرية التي ثارت ضدها، أو تعينها على التصدي للدول الداعمة لتلك الأنظمة والممولة للثورات المضادة، من الخليج إلى أمريكا، تلك الدول التي أفزعها تصدر الإسلام السني السياسي للمشهد، واكتساحه لكل الانتخابات التي خاضها ممثلوه، فقامت تلك الدول على قلب رجل واحد بإعلان الحرب على هذه الثورات، ثم الانقلاب عليها، ونجحت!!

ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن الانقلابات والثورات المضادة التي أفشلت الربيع العربي، وفي مصر تحديدا، التأكيد على أن ما جرى في 25 يناير 2011 كان ثورة شعبية مكتملة الأركان، لم يكن بها أي شبهة مؤامرة مدفوعة من قوى داخلية أو خارجية، كما كان ولازال يردد البعض، ويخطئ من يصدق الأكذوبة القائلة إن الثورة المصرية كانت مؤامرة من الجيش ضد مبارك، رفضا لمشروع التوريث، بنقل الحكم إلى نجله الأصغر جمال، فالجيش المصري والعسكر عموما، عندهم من الوسائل والإمكانات ما يمكّنهم من الإطاحة بالحاكم إذا ما أرادوا ذلك وفي أي وقت، وأخر ما يمكن أن يتفتق إليه ذهن العسكر للانقلاب على الحاكم، هو اللجوء للشعوب للقيام بثورة ضده (دعك مما حدث في 30 يونيو 2013 لأن الجماهير التي خرجت فيها لم تكن ثورية إنما دفعتها المصلحة الشخصية والأيدولوجية الفكرية والدينية) فأكثر ما يخيف العسكر في أي نظام ديكتاتوري هو تجمهر الناس، حتى وإن كان هذا التجمهر على مباراة في كرة القدم وليس في مظاهرات سياسية غير مأمونة العواقب، فالجماهير عند الأنظمة العسكرية، ما هي إلا عفريت حبسوه داخل قمم، وخروجه من هذا القمم هو الكابوس الذي يقض مضاجعهم طوال الوقت، وإذا ما افترضنا أنهم قادرون على تحضير هذا العفريت، فالمؤكد أنهم لن يكونوا واثقين في قدرتهم على صرفه وإعادته للقمم مرة ثانية!!

وفي حال سلمنا بفرضية تحريض الجيش المصري للناس على النزول للشوارع والمطالبة برحيل مبارك، فلماذا إذن تصدى هذا الجيش ممثلا في شرطته العسكرية للجماهير بالأسلحة النارية ليفرقهم ويعيدهم إلى منازلهم مرة ثانية، حتى أنه أسقط منهم مئات الشهداء وآلاف المصابين؟!! ولو أنها كانت بالفعل تمثيلية صنعها العسكر، فلماذا سمحوا بمحاكمة صورية لمبارك بعد عزله، ولماذا تركوا العشرات من كبار المسؤولين ورجال الأعمال ممن تربطهم بهم علاقات قوية، يهربون من مصر خوفا من الملاحقة الثورية، وتساؤلات أخرى لا حصر لها، الإجابة عليها تنفي فكرة تحريك الجيش للثورة؟!!

والحقيقة أن من يروجون لهذا الوهم الكبير، هم الذين لم تستوعب عقولهم ومخيلتهم، إمكانية خروج الناس بكل هذه الأعداد الكثيفة التي رأيناها في يناير للمطالبة بإسقاط النظام، فهؤلاء المهزومون أمام القدرات الخارقة للحكام، والمعتقدون بأن حكامهم أكبر وأقوى من أن تُسقطها الشعوب، لم يقرأوا التاريخ، ليعرفوا أن الشعوب سبق وأسقطت من الحكام والطغاة والمستعمرين، من هم أشد بأسا وأكثر عددا!!

والآن دعونا نعود لصلب موضوعنا، والحديث عن أخطاء ثورة يناير..

القوى السياسية لم تكن على قدر الحدث!

إن أحد أكبر الأخطاء التي شهدتها ثورة يناير، كان افتقادها للقائد الرمز صاحب الكلمة المسموعة الذي يسير خلفه الجميع، وترضخ له كل القوى الثورية، فأغلب الثورات الشعبية التي حققت أهدافها على مر التاريخ، كان وراؤها قادة ورموز يقودونها، مثال ذلك الثورة الإسلامية الإيرانية التي أطاحت بحكم الشاه 1978، والتي كان رمزها وقائدها آية الله الخميني، والذي كان يقود الثورة من فرنسا وليس من داخل إيران، وإذا كانت ظروف الثورة المصرية مختلفة عن الثورة الإيرانية، باعتبار أن الشعب الإيراني خبرته في العمل الثوري أكبر من خبرة الشعب المصري، وأن الإيرانيين أصحاب تجربة سابقة بالثورة على النظام 1906، وهي الثورة التي تم الانقلاب عليها بعد عامين فقط، وأن غياب التجربة هو الذي حال دون أن يكون للثورة المصرية قائد، إلا أن هناك تاريخ ضخم مسطور عن الثورات الشعبية المؤكد أن النخب السياسية التي شاركت في ثورة يناير قرأته وكان واجبا عليها التعلم منه وتطبيقه!!

وغياب الزعيم عن الثورة المصرية، كان أحد أكبر الأسباب التي جعلت الحركة الثورية غير منظمة أو واضحة الخطة والمعالم، حيث بدت الثورة محكومة بالشارع وتقودها العشوائية، لذلك كان واجبا على القوى السياسية أن تصلح ذلك سريعا بالاتفاق على اختيار قائد للثورة، لكن وبكل أسف رأينا القوى السياسية مشغولة بما هو بعيد تماما عن المنهج الثوري، رأيناها وقد انشغلت بالزعامة وفرض الإرادة السياسية على غيرها، وهو ما أدى إلى تفجر الصراع السلطوي المبكر بين تلك القوى على من يحكم الثورة، وكان الصراع أكبر وأشد من الاستعداد لإنكار الذات والتفكير في مصلحة الوطن، لذا بدأت الثورة وانتهت بلا زعامة، وبلا هوية أيضا!!

وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين هي من كانت تقود ميدان التحرير، وهو الميدان الذي كان يحكم الثورة، فإن هذه القيادة ظلت محصورة في المنصة، والمنصة يقودها من يمسك الميكروفون، ومن يمسك الميكروفون يقوده أناس في الكواليس لا أحد يعرفهم إلا صاحب الميكروفون، وكان واجب الوقت يحتم على الجميع الاتفاق على قائد، وإن لم يوجد، فكان الواجب صناعته، أو وفي أسوأ الفروض، اختيار مجلس ثوري من بين النخب السياسية يتولى إدارة الثورة وقيادتها لتحقيق أهدافها، وهو ما لم يحدث أيضا!!

وافتقاد الثورة للزعيم، ترتب عليه غياب الرؤية وخطة عمل التي كان يجب أن تسير عليها الثورة، فكانت القرارات الصادرة عن القوى السياسية غير مدروسة، ومفتقدة للرؤية الجامعة، وفي أغلب الأحوال تحكمها أهواء وتوجهات وأيدولوجيات الدين والسياسة، وكثيرا ما كان يفرضها الغوغائيون وليس المنطق والصالح العام، وقد ترك ذلك فراغا كبيرا في الرؤية السياسية للثورة، ذلك الفراغ الذي نجح المجلس العسكري في أن يملأه ويفرض من خلاله كلمته على الجميع!!

سياسيون محرمون إعلام!!

وعلى الرغم من أن القوى السياسية لم تحقق شيئا يذكر على الأرض، إلا أن رموزها ونخبها وشبابها، بدوا مشغولين طول الوقت بالسعي لجني محصول ثوري لم تنضج بعد ثماره، وقد بلغ بهم السعي والانشغال بجني المحصول درجة تُشعر من يراقبهم ويتابع حركتهم، أنهم أنجزوا الثورة وحققوا كل أهدافها، وتفرغوا للتفاخر والتباهي والزهو بأنفسهم بتحقيق إنجاز لم ولن يتحقق، وانعكست تلك الحالة على سلوكهم في التعامل مع الناس في الشارع والميدان، حيث بدا الغرور والإحساس بالذاتية والشعور بالأهمية هو السمت الطاغي على غالبية النخب والرموز السياسية، وهو ما ترتب عليه وجود حائل بينهم وبين والجماهير، فكانت الجماهير تعزف في الشوارع والميادين لحن الثورة، بينما النخبوي يغني على ليلاه ويبحث في الفنادق الكبرى والغرف المغلقة عن غنائمه من الثورة، وقد وصل الغرور بهذه النخب درجة جعلت الوصول إليهم والتحاور معهم أقرب للمستحيل، بل بدا الوصول لوزير أو حتى رئيس الوزراء والحديث معه أسهل كثيرا من الوصول لهذا النخبوي المنفوخ على الفاضي، وحقيقة الأمر أنه لم يكن هناك أي مبرر لهذه النفخة الكذابة، فالثورة كانت لاتزال في حالة مخاض ولم تضع مولودها بعد، كما أننا لم نكن حققنا أي انتصار سياسي على الأرض يمكن أن نغتر به أو نتكبر به على الناس، وظني أن الذي أوصل تلك النخب والرموز السياسية لهذه الدرجة من الغرور، هو تكالب وسائل الإعلام عليهم، حيث كان السياسي منهم يقضي يومه متنقلا بين القنوات الفضائية والأرضية والإذاعات والمقابلات الصحفية، فالغالبية العظمى منهم كانوا من المٌحدَثين نعمة إعلام، في ظل حالة حرمان إعلامي شديدة كانوا عليها في عصر مبارك، لذا كان سقوطهم كالفراشات في وهج هذا الإعلام سهلا وسريعا، بل ومن أول فلاش ضوئي يضرب في أعينهم، والنتيجة أن انحرف السياسيون عن مسارهم الثوري وأفسحوا المجال أمام المجلس العسكري لإدارة الثورة والتحكم فيها وفي ثوارها، كما أعطى ذلك الفرصة للمخبرين والجواسيس وعملاء الثورة المضادة، لأن يحلوا محل السياسيين، بل ويحتلوا الميدان كما سنعرض في مقالات قادمة بإذن الله!!

يدفعنا هذا للتأكيد على أن معظم القوى الثورية أو كلها – إذا شئت –  لم تكن على قدر الحدث، ولم تدرك قيمة اللحظة التاريخية الفارقة التي كانوا فيها، ولو أنهم أدركوها وأحسوا بقيمتها، لعرفوا أنهم بصدد فرصة ذهبية قد لا تأتي مرة ثانية قبل مائة سنة أخرى، لأن الثورات ليست مواسم أمطار تتكرر مع فصول السنة، إنما هي عمل استثنائي تصنعه السماء، مثلها مثل البراكين والزلازل والأعاصير والفيضانات، تلك الظواهر التي يصعب على البشر التكهن بها، أو صدها بالقوانين البشرية إذا وقعت، بل يستحيل الإعداد لها والاتفاق على القيام بها، ولو كان قرار القيام بثورة قرارا بشريا محضا، لشهدت البلاد كل يوم ثورة، ولما عمّر حاكم في موقعه شهرا واحدا، وقد أوجز الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل هذا المفهوم بقوله ” الثورات في التاريخ مثل الأعاصير في الجغرافيا” ولذا فالمصريون في يناير 2011 كانت أمامهم فرصة العمر، لإخراج بلدهم من الظلمات إلى النور، وتخليصه من قبضة الطغيان الذي يحكمهم منذ ألاف السنين، من فرعون موسى إلى سيسي علي جمعة!!

خديعة محاكمة مبارك واسترداد الأموال المهربة!!

غياب الرؤية الثورية والسذاجة السياسية التي بدت عليها غالبية القوى السياسية، تجلى في انخداعهم بموقف المجلس العسكري من الثورة، وتصديقهم له بأنه يشاركهم الرغبة والأمل في التحول الديمقراطي المنشود، وهو أمر تطرقنا له بإسهاب في المقال السابق، بيد أن السذاجة السياسية بلغت مداها بتماهي هذه القوى مع المحاكمة الصورية للرئيس المعزول مبارك، بعدما بدت عليهم مظاهر الارتياح لإجراءات محاكمته هو وأفراد أسرته، كما بدت ثقتهم في أن القانون سيأخذ مجراه، وأن القضاء الشامخ سيعامل هؤلاء المجرمين بالقسطاس المستقيم، وأنه كفيل بمحاسبتهم على ما ارتكبوه من جرائم، ونسيت تلك القوى أن الذي أحال مبارك للمحاكمة هو المستشار عبد المجيد محمود النائب العام الذي عينه مبارك نفسه لهذا المنصب قبل الثورة بخمسة أعوام فقط، وأن القضاة الذين سيحاكمونه هم من تربوا وترعرعوا في أحراش سلطته الفاسدة، وكان الواجب على تلك القوى أن تتوقف أمام كل هذا لتفهم أن ما سيحدث في محاكمة مبارك ما هو إلا مسرحية هزلية تم إعدادها بعناية فائقة من المجلس العسكري وبمعاونة من مسئولي الدولة العميقة وبتنسيق كامل مع مبارك وأسرته، كما لم تلحظ القوى السياسية ما هو أهم من ذلك، وهو أن التهم التي تم توجيهها إلى مبارك، كلها تعلق بجرائم يمكن الخروج منها بسهولة، فتهمة التعدي على المتظاهرين، هي جريمة يصعب التدليل على إدانته فيها، ونفس الشيء بالنسبة لجرائم الفساد المالي، التي أظهرت مبارك وكأنه موظف عمومي بأحد المصالح الحكومية، تم ضبطه في جريمة اختلاس، يمكن أن يخرج منها بسلام إذا ما أعاد ما أختلسه، وكان الواجب أن تكون محاكمته على أنه رئيس دولة استمر في الحكم 30 سنة، أهلك خلالها الحرث والنسل، ويجب محاكمته على جرائمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي هبطت بمصر إلى هوة سحيقة من الفقر والجوع والديون، وما نتج عن ذلك من تجويع للشعب وتدميره صحيا وتعليميا، بل وأخلاقيا..

وحتى مع قضايا الفساد المالي التي اتُهم فيها وتم تبرئته منها جميعا هو وجميع أفراد عائلته، لم تلحظ القوى السياسية أن الفترة الفاصلة بين قيام الثورة (25 يناير) وبداية المحاكمة (13 أبريل) هي 78 يوما، وهي فترة طويلة للغاية، كانت كافية جدا لأن يسوي فيها مبارك كافة أوضاعه المالية المخالفة قبل المحاكمة، ففي هذه الفترة ظل مبارك ونجلاه علاء وجمال بلا أي ملاحقة ثورية أو مساءلة قانونية، وكان نجلاه يتحركان داخل وخارج مصر بحرية تامة، لتسوية أوضاعهم المالية والقانونية، وتهريب باقي ثرواتهم خارج مصر، وكان الأغرب والأعجب في ذلك الوقت أنك ترى بعض النخب الثورية التي دخلت عليها تمثيلية المحاكمة، وقد صدقوا أن بإمكانهم استعادة أموال مبارك وعائلته المهربة إلى الخارج والتي تزيد عن المائتي مليار دولار، فراحوا يوجهون كل اهتمامهم ومجهودهم في كيفية استعادة هذه الأموال، في حين كان الأولى بالتفكير والانشغال هو السعي لاستعادة الأموال المنهوبة بالداخل، ثم نفكر فيما تم تهريبه للخارج!!

نكمل في المقال القادم بإذن الله.

أحمد سعد حمد الله

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى