أحمد سعد يكتب: العسكر والإخوان.. وأخطاء يناير (7)
كل الطرق في 25 يناير 2011 كانت ممهدة أمام القوى السياسية في مصر، للقيام بثورة شعبية كاملة الأوصاف، فجميع قوى الشعب، العامة، والسياسية، والناعمة، بل والخشنة، كانت مستعدة للانخراط في الثورة، ومسايرتها، والتعاون من أجلها، وهذا ما كان يكفي لإنجاحها، لو أن القوى السياسية أحسنت استغلاله..
فحتى الذين لم تأت الثورة على هواهم، والذين كانوا ينافقونها ثم خانوها لاحقا، أو حتى فلول النظام، كلهم أبدوا الاستعداد لدعمها، والمساعدة على إنجاحها، وقد أظهروا هذه الروح ليس حبا فيها، أو إيمانا بمبادئها، إنما خوفا منها ونفاقا لها، لأن الثورة عندما اندلعت في الخامس والعشرين من يناير، واشتعلت نيرانها في الثامن والعشرين من نفس الشهر، بثت الرعب في نفوس الجميع، حيث كانت أشبه بإعصار مدمر بقوة مائتي ميل بالساعة، ضرب البلاد من شرقها لغربها، ومن شمالها لجنوبها، ولذا سارع كل هؤلاء للحاق بها والاحتماء فيها، لدرجة أنهم ومن فرط تماهيهم مع الثورة، بدوا وكأنهم مناضلون أمضوا حياتهم في الكفاح من أجل الوصول لهذه اللحظة، وليسوا هم الذين كنا نراهم من قبل يرتعون في حدائق فساد السلطة التي قامت ضدها الثورة..
من هؤلاء مثلا الدبلوماسي عمرو موسى الذي تمرغ في خير الرئيس المخلوع حسني مبارك عشر سنوات كاملة، كان فيها وزيرا للخارجية (1991 – 2001) بخلاف عشر سنوات أخرى (2001 – 2011) قضاها أمينا عاما لجامعة الدول العربية برضا مبارك أيضا، غير بضعة سنوات أخرى تنقل فيها بين المواقع الدبلوماسية الرفيعة بكبرى دول العالم، لكن وبالرغم من ذلك ظهر موسى في الثورة سباقا إلى حمل لوائها وركوب موجتها، بل والسعي لجني أرباحها قبل غيره، فكان أول من أعلن عن رغبته في الترشح لرئاسة الجمهورية، وأول من بدأ جولات الدعاية الانتخابية!
كذلك الحال بالنسبة للجنرال العسكري الفريق أحمد شفيق الذي أفنى عمره في خدمة مبارك وسلطته والنهل من فسادهما، متقلدا المناصب الكبيرة والرفيعة، من قائد للقوات الجوية، ثم وزيرا للطيران المدني، وصولا إلى رئيس وزراء، ومع ذلك رأيناه يتكلم بلسان الثورة، ويدعي وصلا بها، والعمل من أجل تحقيق أهدافها، بل والتطلع للفوز بمكاسبها، بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وهو المنصب الذي كان قاب قوسين أو أدنى من بلوغه.. وغيرهما من كبار المسؤولين والسياسيين والمثقفين، الذين كانوا قبل الثورة يسبحون بحمد مبارك، ويخشون عليه الشوكة يٌشاكها، رأيناهم يتقربون إلى الثورة والثوار بالنوافل!
حتى الإعلاميين الذين كانوا يصلون الليل بالنهار تطبيلا لمبارك ومدحا فيه وتبريرا لفساده، وجدناهم يتنصلون منه فور خروج الثورة ضده، ورأيناهم يفتحون عليه وعلى أسرته نيران النقد والهجوم، ويتهمونه بالفساد وتدمير البلد!
كذلك الحال بالنسبة لكثير من الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، ممن كانوا يمجدون مبارك في أعمالهم الفنية وأغانيهم، وجدناهم يخرجون مع الخارجين عليه، ويطالبون مع المطالبين برحيله وإسقاط نظامه!
وهكذا كان الحال في الأيام الأولى للثورة المستعرة بنيران الجماهير الغاضبة، والتي ظن الناس وقتها، وظننا معهم، وظن العالم، أنها ستأكل الأخضر واليابس، وستأخذ في وجهها، كل الفساد والفاسدين، فقد تصورنا وقتها أن القوى السياسية التي تقودها وتحرك جماهيرها، ستنجح في استغلال لهيبها، وستزيل بنيرانها من الجذور، كل النظام الفاسد الذي مص دم المصريين، وجثم على صدر الشعب ثلاثة عقود كاملة، وأنها ستمضي حيث أمرها الثوار، نحو تحقيق كل الأهداف والمطالب التي خرج الناس من أجلها..
بيد أن الظنون سرعان ما خابت، والأحلام تبددت، والآمال تبخرت، بعدما بدت القوى السياسية “خرعة” في مواجهة السلطة، وعاجزة عن القيام بأي فعل ثوري حقيقي، نحو محاسبة النظام وملاحقة الفاسدين، فكانت النتيجة أن خبئت نار الثورة سريعا، وهدأ الإعصار في لحظتها، فتهيأت الفرصة لظهور عناكب العسكر والدولة العميقة، التي بدأت تنسج خيوط مؤامرتها على الثورة والثوار، وعندها عاد المنافقون أدراجهم، بالانصراف عن الثورة، واللحاق بركب العسكر والدولة العميقة!!
منافقو الثورة وضياع الفرصة
القوى السياسية لم تدرك حجم الفرصة التي سنحت لها في الأيام الأولى للثورة بداية من انطلاقها 25 يناير وصولا إلى تنحي مبارك 11 فبراير، فخلال تلك الفترة كان بإمكان هذه القوى أن تحقق كافة الأهداف التي اندلعت من أجلها الثورة، حيث الحالة الثورية التي كان عليها الناس وكانت عليها شوارع وميادين مصر الهادرة بالجموع البشرية، كفيلة ببث الرعب في نفس كل من يفكر في الوقوف أمام الثورة، أو يخطر بباله معاداتها أو معارضتها، أو حتى إنكارها ولو بالقلب، فكما أشرنا سلفا إلى أن هذه الحالة، هي التي دفعت الكثيرين من أبناء دولة مبارك إلى التودد للثورة خوفا وطمعا، والتمحك في ثوارها، والتقرب من قواها السياسية، وقد بدت تلك المداهنات كبيرة، بل وفجة في محاولة التقرب من تيار الإسلام السياسي دون بقية التيارات، وخصوصا تنظيم الإخوان المسلمين، باعتباره الكيان الأكبر والأقوى والأكثر جماهيرية، والمرشح للوصول إلى السلطة، فقد رأينا المنافقين المحسوبين على نظام مبارك وانقلبوا عليه مع اندلاع الثورة، يتوددون لهم، ويتقربون إليهم بالقرابين، أملا في نيل رضاهم، والفوز بمعيتهم، فلعلهم يجدون لهم نصيبا في دولتهم الجديدة، كما كان لهم نصيب في دولة مبارك، ولم يكن التقرب إلى الإخوان مستترا أو خجولا أو من وراء ستار، إنما كان علنيا، وفجا في أغلب الأحوال، وأذكر من هذه النوعية على سبيل التخصيص، زملاء كثيرين في مؤسسة “أخبار اليوم” الصحفية، كانوا ممن عُرف عنهم الرتع في حدائق دولة مبارك، والعيش على بقايا فساده، أو على الأقل ليسوا ضده، ولم يكن لديهم أي أزمة في استمراره 30 سنة أخرى، أو حتى توريث منصبه لنجله جمال، فهؤلاء الصحفيون لم يٌعرف عنهم قبل سطوع نجم الإخوان المسلمين، الحرص على أداء الصلاة، أو حتى التحلي بأي التزام ديني، رأيتهم في تلك الفترة يحرصون على أداء الصلوات، بل وبانتظام شديد، حتى أن ذلك تسبب وقتها في ازدحام غرفة الصلاة، والتي كانت من قبل تقتصر على الساعاة وثلة من الصحفيين فقط، لكنها أصبحت في تلك الفترة تعج بالناس، وتضيق بالمصليين، بانضمام المسلمين الجدد، لدرجة أننا كنا نفترش الطرقة الجانبية، لاستيعاب هذه الأعداد الكبيرة، وكأننا في صلاة الجمعة، وليس صلاة يوم عادي، ليس هذا فحسب بل إن بعضا من هؤلاء الزملاء أطلقوا لحاهم وحملوا المسابح وعاشوا دور التدين، على أمل أن يلفتوا انتباه الإخوان، حتى إذا ما ظهر أحد من هؤلاء الصحفيين في لقاء تليفزيوني، أو التقى بأحد القيادات الإخوانية في مؤتمر أو حوار صحفي، بدا في سمته التدين، وظهر عليه الورع، ومن ثم وضعه الإخوان في عين الاعتبار، وشملوه بعين الرضا عند الوصول للسلطة.. ولم يقتصر الأمر على رجال الصحفيين فحسب، بل وصل أيضا للنساء من الزميلات الصحفيات، اللاتي كن متبرجات أو شبه متبرجات قبل الثورة، ثم أصبحن يرتدين الحجاب مع ظهور الإخوان، بل إن بعضهن ممن كن محجبات لكنهن يرتدين الملابس الضيقة المحددة لمعالم الجسم، غيرن «الاستايل» وأصبحن يرتدين العبايات والملابس الفضفاضة التي تغطي الجسم بأكمله..
الطريف أن كل هؤلاء سرعان ما عادوا إلى طبيعتهم المألوفة، بمجرد أن بدأت ملامح الانقلاب على الثورة تظهر، حيث الرجال حلقوا اللحى، وتركوا المسابح، والنساء خلعن الحجاب واستعادن ملابسهن القديمة الضيقة، وتوقف الجميع عن التودد للإخوان، بل اتخذوهم أعداءً، وتقربوا بهذا العداء للعسكر، الذي فتح لهم أحضانه، ووعدهم بأنهار العسل المصفى واللبن الذي لم يتغير طعمه، بمجرد اجهاض الثورة والخلاص من الإخوان، وهم صدقوا!!
في تلك الأيام التي كان الجميع مستعدا فيها للانصياع للثورة، ولطاعة أولي الأمر من القوى السياسية، كان الواجب على تلك القوى عموما والإخوان خصوصا، أن ينتهزوا الفرصة ويطرقوا الحديد وهو ساخن، بفرض المسار الثوري على الجميع، والذي على رأسه محاكمة النظام ورموزه، وتطهير مؤسسات الدولة وجهازها الإداري من الفاسدين وفلول دولة مبارك، فالأجواء وقتها كانت مهيأة تماما أمام القوى الثورية والسياسية، بأن يفعلوا في الدولة ما يشاءون، بشرط أن يمتلكوا الشجاعة على فعل ذلك، حيث حالة التسليم والاستسلام التي كان عليها العاملون بالدولة من كبيرهم لصغيرهم، أمام وهج الثورة وقوتها، كانت في حاجة لمن يستثمرها صح، وأن يحقق من خلالها كافة أهداف الثورة، لكن وللأسف أضاع الإخوان ورفقائهم السياسيين الفرصة، حيث لم يقدموا على أي عمل ثوري يذكر، والسبب في ذلك، هو أن تلك القوى وعلى رأسها الإخوان لم يكن لديهم القلب الميت الذي تحتاجه الثورات، فضلا عن حرصهم جميعا – وهذا الأخطر – على مشاعر المجلس العسكري الذي كان يحكم البلاد وقتها، وكان الإخوان والقوى السياسية يريدون الإبقاء على حبال الود موصولة معهم، لأنهم سيحتاجون لدعمهم وحمايتهم، بعد أن تضع الثورة أوزارها، ويستلم الإخوان أو أي من القوى الأخرى حكم البلاد مكان مبارك.. كانوا بيحلموا!!
دور البرادعي وصباحي وأبو الفتوح في الانقلاب
كل هذا وغيره من المواقف المشابهة، كان يكشف عن استعداد واضح من كل العاملين بالمؤسسات والجهاز الإداري للدولة، الإذعان للثورة وقانونها، بشرط أن يلمس هؤلاء في الثورة القوة التي كانوا يلمسونها في سلطة مبارك، ولمسوها لاحقا في دولة العسكر، أما منهج التعامل بالحب والقدوة الحسنة، الذي أرادت القوى السياسية وعلى رأسها الإخوان أن تطبقه في علاقتها بدولة مبارك، فهذا ما أدى بالثورة والإخوان والبلد إلى الحالة التي نحن عليها الآن، فالدولة التي اعتاد العاملون فيها على أعمال السخرة، والانسياق للسلطة بالتخويف والترهيب، بل والقهر، يصير من العبث الظن بالقدرة على إخضاعهم لك لمجرد أنك مؤدب وتعرف ربنا، فالسياسة تحتاج للقوة التي تحميها وتحصنها، وتعينها على تنفيذ مطالبها وتحقيق أهدافها، وبدون هذه القوة يتلاعب بك الناس، ويسخرون منك، وتكون النتيجة في النهاية إفشالك وإسقاطك، كما حدث وأسقطوا الرئيس محمد مرسي، وأسقطوا حكومته، بعد أن أفشلوا الثورة!!
وإذا كنا قد أكدنا في غير مرة أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق جماعة الإخوان باعتبارها التنظيم السياسي الأعرق والأكثر خبرة والأكبر عددا وأنهم لو استقاموا سياسيا لاستقامت الثورة، إلا أن هذا لا يعفي بقية القوى الثورية من المسؤولية، وبالتحديد النخب السياسية، وأذكر هنا منهم ثلاثة على سبيل الخصوص وهم: الليبرالي دكتور محمد البرادعي، والناصري حمدين صباحي، والإخواني السابق دكتور عبد المنعم أبو الفتوح، واختياري لهذا الثلاثي بالتحديد، ليس بهدف التحامل عليهم، أو النيل منهم ، إنما لكونهم أبرز القيادات الثورية، وأشهر نخبها السياسية، فضلا عن كونهم الأكثر حظيا بثقة الجماهير، ومن ثم كانت مسؤوليتهم كبيرة، بحجم تأثيرهم في الناس، وبحجم خطاياهم التي ساعدت في وقوع الانقلاب!
1 – البرادعي
الدكتور محمد البرادعي كان أحد أبرز الأسماء في ثورة يناير، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق، فما أكسبه تلك المكانة، هو الحركة السينمائية التي فعلها قبل سنة من الثورة، وبالتحديد في فبراير 2010، عندما جاء إلى مصر في زيارة رتبت لها الكثير من القوى السياسية، حيث حشدت له الألاف من الجماهير ليكونوا في استقباله بمطار القاهرة عند وصوله من الدولة التي يعيش بها وهي النمسا، وقد قيل وقتها أن الدافع للزيارة هو نيته في الترشح لرئاسة الجمهورية، وإفساد مخطط التوريث الذي كان يرتب له مبارك وحزبه الوطني، وقد رأى الناس وقتها أن البرادعي هو أنسب من يخلف مبارك في الرئاسة، ليس فقط لقيمته المحلية والدولية الكبيرة، وإنما لكونه بطل مغوار، امتلك الشجاعة على مواجهة مبارك ودولته، وكان رأى السياسيين وقتها أن البرادعي سيكون هو المخلص الذي سيخلص الشعب والبلد من مبارك ودولته الفاسدة، فهو الوحيد الذي يصلح لتلك المهمة، كونه يملك الأدوات التي تؤهله لذلك، فهو يملك المال الذي يعينه على مغامرة كهذه، كما يملك العلاقات الدولية الواسعة التي أقامها وقت أن كان مديرا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، تلك العلاقات التي يمكن أن تحصنه من مضايقات وتجاوزات سلطة مبارك، لكن ولأن البرادعي من الشخصيات المائعة التي لا يمكن الإمساك بأي طرف فيها، كما يستحيل تحديد مواقفه، أو الخروج منه بإجابات قاطعة على أي أسئلة وإن كانت تافهة، لذا مرت الزيارة دون أن يجد الناس عنده ردا قاطعا، ما إذا كان سيخوض الانتخابات الرئاسية أم لا، لكن ومع ذلك ظل حريصا على التواصل مع وسائل الإعلام المصرية، ومع القوى السياسية، حتى يحافظ على بقاء أسمه يتردد على الألسنة، فلربما يحسم قراره يوما ما، وربما تكون تلك الزيارة والاستقبال الحافل له وآراء السياسيين الإيجابية فيه، هو الذي جعل شعبيته تتضخم في ثورة يناير، وتلتف حوله غالبية القوى السياسية غير الإسلامية.
وفي ظل هذا الزخم كانت الفرصة مهيأة أمام البرادعي لأن يكون هو الرمز الثوري الذي تلتف حوله الجماهير والقوى السياسية ولأن يصبح مانديلا الثورة المصرية، إلا أن تركيبته النفسية شديدة التعقيد، حالت دون ذلك، فهو كما أشرنا صاحب شخصية مائعة، يبدو طوال الوقت مترددا، غير واثق في نفسه ، متشككا دائما في الآخرين، حساباته معقدة في اتخاذ المواقف، فضلا عن حرصه على مظهره الخارجي والداخلي “البرستيج” هذا بجانب التأتأة في الكلام، وافتقاده موهبة الخطابة في الجماهير، وهذا ما أفقد حماسة الكثيرين له، وإن ظل محتفظا ببريقه وتأثيره في الثورة وفي مريديه، كما ظل مخلصا للثورة أيضا، وظل على هذا الإخلاص، إلى أن بدأ يستشعر قوة التيار الإسلامي -الإخوان تحديدا- في استفتاء 19 مارس، فعندها تيقن أنه لا قبل له بمواجهتهم سياسيا، ولذا فقد قرر هدم المعبد عليهم، وعلى الجميع، وعلى الثورة إذا لزم الأمر، ومن هنا راح يتفرغ للحرب على الإسلاميين، والإخوان خصوصا، وبدأ في حياكة المؤامرات، والألاعيب السياسية غير النظيفة، وبدلا من التفكير في الثورة ومواصلة السعي لإنجاحها، والتواضع لها بالتواصل مع الإخوان للوصول معهم إلى صيغة تعاون مشترك تخدم الثورة، وتنقذها من التشرذم الذي تسبب فيه لاحقا، راح يكيد لهم ويفتعل معهم الأزمات، عندها التقط العسكر طرف الخيط، وبدأ السعي للاستفادة من تلك المعركة، بالتقرب للبرادعي، بل وتجنيده لخدمة خطتهم للثورة، والعميل الذي تولى مهمة تجنيده كان هو الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل والذي كان يمثل في ذلك الوقت حلقة الوصل بين المجلس العسكري والقوى السياسية المختلفة، فهيكل كما هو معروف يبقى دائما الابن المخلص للعسكر والدولة العميقة منذ خمسينات القرن الماضي، وقد ظل على وفائه وإخلاصه لهما حتى وفاته 2016، وليس خافيا على كثيرين الدور المهم الذي لعبه في الانقلاب على الثورة.. المهم أن البرادعي، تحول من سياسي ثائر مخلص للثورة، يحمل على عاتقه حلم ملايين المصريين بتحقيق أهدافها، إلى عدو لها وناقم عليها، لمجرد أنها ستأتي بالإخوان، وقد كان المأمول منه، هو أن يوظف إمكاناته المادية والأدبية والدبلوماسية، والدولية لخدمة الثورة وأهدافها، إلا أنه راح يوظفها بالكامل لضرب الإخوان وتشويههم، حتى وإن تسبب ذلك في الإساءة للمصريين والثورة، ويعتقد البعض أن معظم الأخبار التي كانت تنشر بالصحافة الأجنبية في فترة الثورة، والمسيئة بطبيعة الحال للإخوان، كان هو مصدرها، ولم تقف الحرب عند هذا الحد فقط، بل راح يخالفهم في كل المواقف والقرارات، فإذا قال الإخوان يمين، قال هو شمال، وإذا قالوا شمال قال هو يمين، وهكذا ظل على تلك الحال ومن خلفه أتباعه، إلى أخر يوم في الثورة، يوم أعلن السيسي بيان الانقلاب العسكري 3 يوليو 2013، ذلك البيان الذي كان البرادعي أحد حضوره وشهوده، حيث كان بين الشخصيات التي أحاطت بالسيسي أثناء إلقاء البيان، وكانت هدية الانقلاب له، هو اختياره نائبا لرئيس الجمهورية، ورغم أنه استقال من المنصب سريعا، بل وأعلن الفرار من مصر خوفا من العسكر، إلا أنه رحل وأخذ معه شعبيته وذكراه السياسية السيئة!!
2 – حمدين صباحي
لم يختلف موقف حمدين صباحي عن موقف البرادعي كثيرا، فكما كانت الجماهير تأمل في البرادعي أن يكون هو المخلص للبلد من الطغاة والفساد، كان هناك قطاع عريض من الشعب يضع نفس الآمال على حمدين أيضا، لا سيما وأن حمدين صاحب تاريخ نضالي مشرف في مواجهة الأنظمة، دفع ثمنه غاليا بالاعتقال أكثر من مرة، بيد أن الفارق بينهما هو أن حمدين كان واضح الهدف والوجهة منذ اللحظة الأولى للثورة، وهو الوصول لرئاسة الجمهورية، بينما البرادعي، لا أحد يعلم ماذا كان يريد بالضبط، فحمدين لم يشغله سوى هذا الهدف، وحوله كان يحوم ويدندن طوال الوقت، وقد كان مستعدا للتحالف مع الشيطان في سبيل تحقيقه ، حتى أنه ومن فرط التعلق به صدّق أن العسكر يمكن أن يسمحوا لأحد من خارج الجيش أن يحكم البلد، بل ومن فرط اللهفة على المنصب، التقط الطٌعم الذي وضعه له العسكر في 2014 بالترشح أمام السيسي، دون فهم لطبيعة المرحلة، ودون فهم لخديعة العسكر الذين أتوا به للترشح في هذه الانتخابات، لا لشيء سوى تجميل صورة الانقلاب، وإضفاء شرعية على ترشح السيسي، وبالمرة يحرقوه..
وتطلع حمدين لرئاسة الجمهورية، أعماه عن السعي لتحقيق أي هدف من أهداف الثورة، بل كان يقبل بأي خوازيق توضع أمامها، حتى وإن كانت ستهدمها، فهذا ليس مهما عنده، المهم هو أن هناك فرصة للوصول للرئاسة ويجب انتهازها، وقد ظن حمدين وقتها أن بضعة الألاف من الجماهير التي كانت تلتف حوله في الثورة، كفيلة بإنجاحه في الانتخابات على حساب أي منافس أخر، لكنه كان يدرك أن هناك عقبة كبيرة في طريقه، هي عقبة مرشح الإخوان، لذا لابد من العمل على إزالة هذه العقبة بأي ثمن، وعليه أن يتغدى بالجماعة قبل أن تتعشى به، لكن التخلص من الإخوان وهو التنظيم الذي يمارس السياسة منذ أكثر من ثمانين سنة، لن يكون بالأمر السهل، كان غيره أشطر، لذا فالحل الوحيد هو التحالف مع العسكر، فالعسكر هم الوحيدون القادرون على الإطاحة بهم وإخراجهم من المشهد كما فعلوا كثيرا من قبل، إذن فلا مانع عنده من التقرب منهم والتحالف معهم، والسياسة نجاسة كما قال الشاعر.. وبالفعل تم التواصل بين الطرفين – فتش عن هيكل – وبدأ الاتفاق غير المعلن بينهما على تنفيذ مخطط يقضي بإزاحة الإخوان، وهو نفس المخطط الذي ينفذه العسكر مع البرادعي، ولعل هذا التقارب يفسر للناس سر تحالف الإثنين -البرادعي وحمدين- لاحقا في جبهة الإنقاذ المعادية للإخوان، وهي جبهة صنعها العسكر على عينه، لتكون غطاء سياسيا لتنفيذ الانقلاب على الثورة وعلى الرئيس مرسي في الوقت المناسب.. وظل حمدين على حلمه، إلى أن قضى عليه الإخوان في 2012 بنجاح الدكتور محمد مرسي، وساعتها بدأت الروح الانتقامية عنده تكبر وتتصاعد لتطول الثورة أيضا وليس الإخوان فقط، واستمر يقاتل في الاتجاهين الإخوان والثورة، إلى أن جاء الانقلاب العسكري، وأجهز عليه وعلى حلمه بالرئاسة، بل وعلى مستقبله السياسي!!
3 – عبد المنعم أبو الفتوح
يتشارك الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح مع سابقيه، في عملية تمهيد الطريق أمام العسكر للانقلاب على الثورة، حتى وإن تأخر دوره عن دورهما، فالبرادعي وصباحي بدأ المهمة مبكرا بمجرد استشعارهما قوة الإخوان في استفتاء 19 مارس، أما أبو الفتوح فدوره بدأ لاحقا عندما رفض تنظيم الإخوان السماح له بالترشح للانتخابات الرئاسية، فعندها رفض أبو الفتوح الامتثال للقرار، وانشق عن التنظيم، وترشح للانتخابات بعيدا عنه، دون أن ينسى ثأره مع الإخوان، ليبدأ عندها القتال في اتجاهين، الأول من أجل الوصول لكرسي الرئاسة، والثاني للانتقام من الإخوان، وهذا بالطبع كان يتطلب التواصل مع خصوم الإخوان السياسيين، ومع العسكر أيضا، كما فعل سابقيه وإن كان أبو الفتوح قد رفض الانضمام لجبهة الإنقاذ مثلهما، لكنه ومع ذلك لعب دورا بارزا في الانقلاب على مرسي، بداية من تحريضه لمؤيديه من الجماهير بالذهاب إلى مقر الاتحادية للهتاف ضده والمطالبة بإسقاطه ، نهاية بالدعوة والمشاركة في مظاهرات 30 يونيو 2013، وهي المظاهرات التي مهدت للانقلاب، وكلها مواقف كانت مدفوعة بالرغبة في الثأر من الجماعة، ورد الاعتبار، والتأكيد لها على حجم قوته السياسية وقدرته على إفشالها، لكنه نسي هنا شيئا مهما، هو الثورة، كما نسي وهو يتحالف مع العسكر المبادئ التي ظل طول عمره يكافح من أجلها وهي نشر الديمقراطية والدفاع عنها، كما تناسى أن إنقاذ الوطن من أنظمة الفساد والطغيان التي تحكمه منذ عشرات السنين، كان يجب أن يسمو فوق أهدافه الشخصية ويتجاوز رغبته الانتقامية، والقاعدة الفقهية تقول “دفع المفسدة مقدم على جلب المنفعة” إلا أن شيطانه، وشياطين العسكر، كان تأثيرهم عليه أكبر من التفكير في مصلحة الوطن، ومصلحة مائة مليون مواطن مصري، يعانون الفقر والمرض والجهل والقهر، تحت حكم أنظمة طاغية وفاسدة، كان الشعب على وشك التحرر والتخلص منها في ثورة يناير، لو أن أبو الفتوح وأمثاله أخلصوا نواياهم، لكن وللأسف تجاهل أبو الفتوح كل هذا، وأنشغل بذاته، فكانت النتيجة أن خسر كل شيء، خسر الثورة، وخسر المعركة، بل وخسر نفسه، وفوق كل هذا خسر حريته، فهو يقضي الآن عامه السادس بالمعتقل، عقابا له على انتقاد السيسي الذي خرج أجله في 30 يونيو.. ولعله الآن يعض أصابع الندم، على ما اقترف من ذنب في حق البلد، وحق الثورة، وحق نفسه!
نكمل في المقال القادم بإذن الله.