“أحمد شوقي”.. العبقري شاعر العربية الأكبر
رَمَضانُ وَلَّى هاتِها يا ساقي
مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ
ما كانَ أَكثَرَهُ عَلى أُلّافِها
وَأَقَلَّهُ في طاعَةِ الخَلّاقِ
اللَهُ غَفّارُ الذُنوبِ جَميعِها
إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُنوبِ بَواقِ
الأَمسِ قَد كُنّا سَجينَي طاعَةٍ
وَاليَومَ مَنَّ العيدُ بِالإِطلاقِ
تلك أبيات من قصيدة أحمد شوقي المثيرة للجدل، والتي كتبها محتفلا بانتهاء شهر رمضان المعظم، ومستقبلا للخمرالتي انقطع عنها في شهر رمضان، كما تقول الأبيات..
وظل الهجوم متواصلا على الرجل، بل وما زال للآن من خصومه،
شوقي والشيخ الشعراوي
كان الشيخ محمد متولي الشعراوي طالبا بالأزهر في ذلك الوقت، وأزعجته القصيدة، وقرر مقابلة شوقي، ونجح في ذلك، بواسطة صديق مشترك بينهما،
ويحكي الشيخ الشعراوي قصة هذا اللقاء فيقول: “ذهبنا إليه وقدمنا إليه أحد الأصدقاء قائلا: هؤلاء شباب من أشد المعجبين بك، ويحفظون شعرك كله، ويأملون فقط في رؤيتك”
وأضاف الشيخ: “عندما التقينا به سَألني شوقي: ما الذي تحفظه عني؟، فعددت له قصائد عديدة، فسألني: ومَن الذي دفعك إلى هذا؟، قلتُ له إن والدي كان يمنحني مالًا عن كل قصيدةٍ أحفظها لك، فتبسّم قائلا: مرحبا بك، وقلتُ له: إن لنا عتابًا عليك، فسألني: فيمَ العتاب؟!، فقلتُ له: ما هي حكاية (رمضانُ وَلَّى هاتِها يا ساقي)، فضَحكَ شوقي كثيرًا.. وقال: ألستُم حافظين للقرآنِ الكريم؟!، قلنا: بالطبع نحفظه، فقال شوقي: ألا تعرفون الآية التي تقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) وكان ردًا أفحمَنا”.
الشاعر أحمد شوقي
أعظم شعراء العربية في العصور الحديثة
(أحمد شوقي علي أحمد شوقي)
– الميلاد: 16 أكتوبر 1868م، القاهرة.
– الوفاة: 14 أكتوبر 1932م، القاهرة
– مواليد حَيّ الحنفي بالقاهرة، لأب كُردي الجذور، وأم تركية،
وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب من الغنى والثراء، فتكفَّلَت بتربية حفيدها، ونشأ معها في القصر، وعاش حياة الأثرياء.
– كان أحمد شوقي (وحيد والديه)، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بالكُتّاب، فحفظ بعض السور من القرآن الكريم، وتعلّم مباديء القراءة والكتابة، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وبدأت رحلة شوقي في عالم الشعر، وغاص في دواوين فحول الشعراء، فبدأ الشعر يجري على لسانه.
– كان شوقي طفلا خجولا، قليل الكلام، يعشق الصمت والتأمل، وقيل إنه كان يركب حمارا وهو في تلك السن الصغيرة، ويسير به في شوارع وحواري القاهرة، ليتأمل حياة الناس، والأعمال، والأسواق
– التحق بمدرسة الحقوق، في 1885م، وانتسب إلى قسم الترجمة الذي كان قد أُنشِيء بها حديثًا، وفي هذه الفترة بدأت موهبته الشعرية تلفت الأنظار.
– سافر إلى فرنسا على نفقة الخديوي توفيق، ولذا كان شوقي هو شاعر القصر.. فنرى هجومه على الزعيم المجاهد أحمد عرابي:
صغارٌ في الذهابِِ وفي الإيابِ/
أهذا كلُّ شأنِكَ يا عرابي/
– ارتبط أحمد شوقي بصداقة قوية مع الزعيم مصطفى كامل، وبدأ تدريجيا يشعر بآلام الشعب، ويبتعد عن القصر، والخديوي، حتى صار عدوا للقصر، وشاعرا للشعب:
زمانُ الفردِ يا فرعونُ وَلّى
ودالت دولةُ المتجبرينا/
وأصبَحَت الرعاةُ بكل أرضٍ
على حُكم الرعيّةِ نازلينا/
– كان أحمد شوقي يجيد أربع لغات غير العربية.. ويملك نصيبًا كبيرًا من الثقافتين العربية والغربية.
المنفى
نفى الإنجليز، الشاعر أحمد شوقي إلى إسبانيا عام 1915م، واستغل العبقري شوقي هذا المنفى في القراءة، وغاص في فروع الأدب العربي، والحضارة الأندلسية، هذا بالإضافة إلى قدرته التي تكوّنت في استخدام عدّة لغات، والاطلاع على الآداب الأوروبية، وكان أحمد شوقي في هذه الفترة على علم بالأوضاع التي تجري في مصر، وكانت قصائده الداعمة للشعب، ومشاعر الحزن على نفيه من مصر.
متحف أحمد شوقي :
بعد عودة شوقي من المنفى، في نهاية سنة 1919م، بنى منزلا على كورنيش النيل، وفي عام 1972م، أصدر الرئيس الراحل أنور السادات قرارا بتحويل كرمة ابن هانيء إلى متحف يحمل اسم أمير الشعراء أحمد شوقي، وتم افتتاحه في 17 يونيو 1977م، ثم افتُتِح مرة ثانية في ثوبه الجديد بعد تطويره وتجديده واستحداث مركز ثقافي (مركز كرمة ابن هانيء الثقافي) عام 1996م، ويحتوي المتحف على مقتنيات شوقي التي تُقدّر بحوالي 1153 قطعة، تجمع بين الأثاث، واللوحات، والتحف، والصور الفوتوغرافية، بالإضافة إلى النياشي، وملابس التشريفة الخاصة بأمير الشعراء، وكذلك بعض الهدايا والوثائق التي قُدِّمَت إليه بمناسبة تتويجه أميرًا للشعراء. يطل المتحف على النيل وتبلغ مساحته 1433(متر مربع)
عبقرية شوقي
– امتلك شوقي موهبة شعرية فذّة، ولذا قيل عنه: (كان صاحب بديهة سيالة، لا يجد عناءً في نظم القصيدة، فدائمًا كانت المعاني تنثال عليه انثيالاً وكأنها المطر الهطول، يغمغم بالشعر ماشيًا، أو جالسًا بين أصحابه، حاضرًا بينهم بشخصه، غائبًا عنهم بفكرِه؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية؛ إذ بلغ نتاجه الشعري ما يتجاوز (23500) ثلاثة وعشرين ألفا وخمسمائة بيت، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربي قديم أو حديث، ولذا قيل إنه كان مسكونًا بـ جِن الشعر، وموهبة فوق مهارة وقدرات البشر)
– كان شوقي مثقفًا ثقافة متنوعة الجوانب، يجيد العديد من اللغات، ولذا غاص في عالم الشعر العربي والغربي،
– كان ذا حافظة لاقطة لا تجد عناءً في استظهار ما تقرأ؛ حتى قيل بأنه كان يحفظ أبوابًا كاملة من بعض المعاجم، وكان مغرمًا بالتاريخ، يشهد على ذلك قصائده التي لا تخلو من إشارات تاريخية لا يعرفها إلا المتعمقون في دراسة التاريخ،
الأغراض الشعرية في قصائد أحمد شوقي
لقد تعددت الأغراض الشعرية في شعر أحمد شوقي، فقد نظم الشعر في كافة أغراضه؛ من مديح، ورثاء، وغزل، ووصف، وحكمة، لكنه مزج هذه الأغراض مع بعضها، فكان إذا أنشأ قصيدة في المدح مثلاً يدخل إليها أغراضاً أخرى كالدين والوصف والحكمة.
أمير الشعراء
– في عام 1927م، بايع شعراء العرب، (شوقي) أميرًا للشعر، وبعد تلك الفترة تفرّغ شوقي للمسرح الشعري، حيث يعد الرائد الأول في هذا المجال عربيا؛ ومن مسرحياته الشعرية: مصرع كليوباترا، وقمبيز، ومجنون ليلى، وعلي بك الكبير.. وغيرها
اعترض بعض الشعراء والأدباء المصريين والعرب على تتويج شوقي بإمارة الشعر، وكان “عباس محمود العقاد” في مقدمة الذين هاجموا شوقي بضراوة شديدة، ومعه طه حسين، والشاعر الجزائري مفدي زكريا، وغيرهم.. ورغم أن العقاد عاش حوالي ثلاثة عقود بعد وفاة شوقي، إلا أنه فشل في هزيمته، ولم يحقق شيئا في الشعر بعد أن خلت الساحة بموت شوقي.
وقد اقترحَ المؤرّخ عبد الرحمن الرافعي إطلاق لقب “شاعر العربية الأكبر” على شوقي، بدلا من أمير الشعراء، لأن هذا اللقب لا يتفق والروح الديمقراطية، ولم تعد الإمارة تُضفي على صاحبها منزلة محترمة.
أما الشاعر أحمد رامي فقال: “أنا معترض أصلًا على أن يكون للشعر إمارة ولها أمير، إلا أني أعترف بأن أحمد شوقى كان أعظم من قرض الشعر منذ قال الشعراء شعرًا، وله عندى أعظم منزلة لكني لا أعترف للشعر بإمارة أو أمير”.
شاعر الرثاء
أحصى الأكاديمي محمد الهادي الطرابلسي مجموع الأبيات الشعرية التي تركها أحمد شوقي فكانت 11 ألفا و320 بيتًا، ظفر الرثاء بنصيب الأسد منها حيث بلغت حصته ألفين و727 بيتًا، أي بنسبة أكثر من 24 في المئة من مجموع شعره الغنائي، وتأتي الاجتماعيات في المرتبة التالية بألف و448 بيتًا، وتحتل القصائد الوصفية المرتبة الثالثة برصيد قدره ألف و112 بيتًا.
شاعر المعارضات
في كتابه (تاريخ المعارضات في الشعر العربي) يقول الدكتور محمد محمود قاسم نوفل، رئيس قسم اللغة العربية بجامعة النجاح في نابلس: (المعارضات الشعرية هي أحد الفنون الأدبية في الأدب العربي، وهي نوع من المباريات الشعرية التي تجري بين الشعراء، وهي تختلف عن التقليد، فهي نوع من إثبات الذات والقدرة على الإبداع في ظل قيود معيّنة، وتبدأ بأن ينظم شاعر ما قصيدة، فيأتي شاعر آخر، إما للإبداع داخل هذا القالب لأنه أعجبه، وإما لنقض معاني هذه القصيدة وأفكارها، لأنه يتبنَّى وجهة نظر أخرى مضادة، لكنه إمعانًا في التحدي يلزم نفسه أن يبدع في نفس القالب الشعري الذي التزمه الشاعر الأول، فيلتزم نفس الوزن والبحر والقافية، وقد ازدهر هذا الفن في عصرنا الحديث حيث يعد أمير الشعراء أحمد شوقي من أبرز رواده)
من الانتقادات التي قيلت عن شوقي بعد تتويجه أميرا للشعر العربي، كانت المعارضات، وقيل إن حوالي 70% من شعره معارضات، ولكن تلك السهام النقدية ارتدت في صدور أصحابها، فقد تفوّق شوقي على جميع الشعراء الذين عارضهم بجدارة، وكان ما يفعله هو التحدي..
يصف الشاعر العباسي البحتري إيوان كسرى في سينيته المشهورة التي تتوارد في أبياتها العظة التاريخية لهذه الدولة التي كانت ذات قوة عظيمة ثم اضمحلت يقول فيها:
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي/
وَتَرَفَّعـتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ/
وَتَماسَكتُ حينَ زَعزَعَني الدَهـر/
التِماساً مــِنهُ لِتَعسي وَنَكسي/
بُلَغٌ مِن صُبابَةِ العَيشِ عِــندي/
طَفَّفَتها الأَيّـامُ تَطفيفَ بَخسِ/
وحينما وصل شوقي إلى بلاد الأندلس بعد رحلة طويلة مضنية في أرجاء البلاد شاهد خلالها الأطلال والآثار المتهدمة من القصور والقلاع والجوامع، هيّجت لديه الأحزان، وجددت به الآلام وهزت فيه الوجدان فأثارت مشاعره، وشحذت أحاسيسه، وتجلّت في خياله قصيدة البحتري، فانطلقت قيثارة شعره بسينيته معارضاً بها البحتري في خضم الظروف السيئة التي أحاطت به، وآثار الرحلة الشاقة التي زادت من تعاسته وعذابه النفسي، تطأ قدمه أرض الأندلس التي تضم أروع صور التاريخ الإسلامي وأزهرها وأشرقها، فأنشأ يقول:
اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسِي/
اُذكُرا لِيَ الصِّبا وَأَيّامَ أُنسي/
وَصِفا لي مُلاوَةً مِن شَبابٍ/
صُوِّرَت مِن تَصَوُّراتٍ وَمَسِّ/
عَصَفَت كالصَّبَا اللَعوبِ وَمَرَّت/
سِنَةً حُــلوَةً وَلَذَّةُ خَلـــــسِ/
وَسَلا مِصرَ هَل سَلا القَلبُ عَنها/
أَو أَسا جُرحَهُ الزَمانَ المُؤَسّي/
ومن قصائد شوقي ذات الشهرة الواسعة والمعروفة على نطاق واسع قصيدة “نهج البردة” التي يقول في أوّلها:
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ/
أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ/
وشوقي هنا يعارض قصيدة البردة للإمام البوصيري التي يقول فيها:
أَمِـــنْ تَــذَكُّــرِ جِــيــرَانٍ بِــذِي سَــلَــم/
مَـزَجْـتَ دَمْـعًـا جَـرَى مِـنْ مُـقْـلَـةٍ بِدَمِ/
أَمْ هَـبَّـتِ الـرِّيـحُ مِـنْ تِـلْـقَـاءِ كَـاظِـمَـة/
وَأَوْمَـضَ الْـبَـرْقُ فِي الظَّلْمَاءِ مِنْ إِضَمِ/
كان أحمد شوقي نهرا متدفقا من الشعر، لا يدانيه أحد، جمعَ بين ثقافة العرب والعجم، وأجاد اللغات الغربية، وامتلك ناصية البيان وكنوز الحكمة، فاستحق لقب الإمارة عن جدارة واستحقاق، بل أن بعض الشعراء والنقاد العرب جعلوه قبل المتنبي والبحتري
الوفاة:
توفي أمير الشعراء أحمد شوقي، فجأة ومن دون مقدمات مرضية، في 14 جمادى الآخرة 1351هـ، الموافق 14 أكتوبر 1932م، بعد فراغه من نظم قصيدة طويلة يحيي بها “مشروع القِرش” الذي نهض به شباب مصر في تلك الفترة.. وأثّرت وفاته في الملايين من الناس الذين بكوه، وانتحبوا على وفاته في مصر، والبلاد العربية جميعها، كما خرجت في جنازته جموع غفيرة، ورثاه العديد من الكتّاب، والشعراء، وأُقِيمت له حفلات تأبين في مصر والبلاد العربية.
———
يسري الخطيب