أربع ملاحظات أساسية في تأصيل فقه السياسة الشرعية المعاصرة
بقلم: عبد المنعم منيب
لدي اهتمام قديم بفقه السياسة الشرعية منذ أكثر من أربعين عاما، وبالتالي فإنني أقرأ أو أجرد كل ما أراه منها، واطلعت على مئات الكتب والأبحاث والمقالات في هذا المجال،
ولدي طموح أن اكتب كتابا في هذا المجال انطلاقا من هذه الخبرة، لكن أثناء التفكر في هذا الأمر مؤخرا لاحظت أربع قضايا رئيسة تمثل خللا أو قصورا في التفكير في مجال فقه السياسة الشرعية في فكرنا الإسلامي المعاصر.
تكرار القضايا القديمة
وأول هذه القضايا أن هناك فريقا كبيرا من العلماء والمفكرين والباحثين وطلبه العلم يهتمون ويتكلمون ويكتبون في مجال السياسة الشرعية في نفس الإطار التي كتبت عبره كتب السياسة الشرعية القديمة مثل كتاب الأحكام السلطانية للمواردي أو أبو يعلى أو غيرهما،
ورَغم أهمية هذه الكتب إلا أنها تناولت قضايا قديمة خاصة بعصرها فقط، وبالتالي فإنها لن تتمكن من فتح مجال البحث في قضايا أخرى هي من اهم قضايانا المعاصرة في مجال السياسة، سواء الداخلية أو الخارجية أو العلاقات الدولية،
وَرغم أن كتاب «غياث الأمم والتيات الظلم» للجويني، وكتاب ابن خلدون «المقدمة» يحتويان على عدد من القضايا التي تمس قضايا مهمه في عصرنا الحالي،
لكنها قليلة ومحدودة بحكم أنها كتبت في عصور قديمة، وهي لا يمكن أن تدرك العديد من القضايا التي نعاصرها الآن،
ورغْم هذا فان هذا الفريق عندما صنفوا في العصر الحاضر مشوا على نفس النهج القديم وأعادوا كتابة نفس القضايا القديمة بدلا من أن يجتهدوا ويتناولوا القضايا الجديدة أي قضايا الحاضر.
التماهي مع الحضارة الغربية لكسب رضاها
والقضية الثانية هي أن فريقا ثانيا كتبوا وحاولوا أن يجتهدوا بشأن السياسة الشرعية المعاصرة ورغم أنهم ظلوا يسيرون في ظلال الكتب القديمة التي تكلمنا عنها في القضية السابقة،
ولكنهم مع ذلك تجدهم حين يعرضون هذه القضايا بلغة معاصرة (وأغلبها قضايا خاصه بالشؤون الدستورية أو نظام الحكم)
فنجدهم يغازلون الحضارة الغربية والقوى الدولية الغربية التي تهيمن على العالم فكريا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا،
فيطابقون بين الديمقراطية والشورى، ويتكلمون عن دور المرأة في العمل السياسي، ويتكلمون عن الأحزاب وشرعيتها، وحقوق الانسان وحقوق المرأة بالمفهوم الغربي،
محاولين أن يقولوا أن الإسلام يقر نفس المفاهيم أو شديد القرب منها، أو يختلف اختلافات بسيطة عنها،
ويبذلون كل جهدهم ليرضوا هذا الغرب بأن يقدموا له نسخة من الاسلام مشابهة للمنظومات الفكرية والدستورية الغربية،
وهم بذلك وقعوا في فخ خطر وفي وهدة عميقة ليس فقط لاعتبارهم أن الإسلام لا يتمايز كثيرا عن الفكر الغربي،
ولكن أيضا بسبب ظنهم أنهم بذلك يمكن أن ترضى عنهم اليهود والنصارى وأهل الملل والنحل الضالة الأخرى.
ورغم انهم يسيرون على هذا المنوال منذ نحو 100 عام ولكنهم حتى الآن لم ترض عنهم اليهود ولا النصارى ولا أهل الملل الأخرى ولن يرضوا عنهم،
قال الله تعالى:
{وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}
سورة البقرة آية 120.
مغازلة القوى الغربية
والقضية الثالثة هي أيضا عند فريق من نفس التيار الذي تكلمنا عنه آنفا الذي يغازل القوى الغربية،
وترى هذه القضية عندما تتصفح ما كتبه بعضهم بشأن السياسة الخارجية أو العلاقات الدولية من منظور إسلامي،
فتجد المفاجأة أنهم يحاولون مطابقة فقه السياسة الشرعية في مجال العلاقات الدولية بمفاهيم وشعارات غربية سائدة مثل الاخوة الإنسانية ووحدة الأديان السماوية لأن كلها من عند الله،
وجوانب الرحمة في تعاليم القتال الإسلامي، وأن القتال الإسلامي هو للدفاع فقط، ونحو ذلك من المفاهيم
التي تبرز أن القوى الإسلامية عندما تمارس السياسة الدولية فهي قوى (كيوت) لطيفة مسالمة تتعايش مع الجميع مهما كانوا ظالمين او ضالين او معتدين،
فهذا الفريق يغفل جوانب أحكام القوة والردع في فقه السياسة الشرعية بشان ممارسة السياسة الدولية،
ويغطون على كل هذه التعاليم رغم كثرتها وثبوتها بالأحاديث النبوية الصحيحة والآيات القرآنية المحكمة والإجماع الفقهي الذي لا شك فيه.
فريق لا يفهم من الإسلام إلا الكفاح
أما القضية الرابعة بشأن فقه السياسة الشرعية المعاصر فهي أننا نجد على طرف النقيض فريقا آخر يخفي جوانب الرحمة وجوانب العدالة وجوانب التعايش السلمي الموجودة في أحكام السياسة الشرعية في مجال العلاقات الدولية أو حتى في مجال السياسة الداخلية،
ويبرز فقط جوانب القوة والجهاد والكفاح والصدام والردع، ويحاول أن ينزلها على كل القضايا حتى على القضايا التي لا تشملها،
وهذا واضح لدى أغلبية التيار الجهادي الإسلامي المعاصر الذي يبرز من حين لآخر في بقاع عديدة من العالم.
الإسلام أحكامه متوازنة لأنها من عند الله
فاذا كان الفريق الذي تناولناه في القضية الثالثة أغفل جوانب القوة والكفاح والردع في السياسة الشرعية بشأن العلاقات الدولية كي يسترضي المنظومة الغربية المهيمنة،
ويسترضي كل قوة دولية مهيمنة، وهذه القوى كلها يهود ونصارى وفرق ضاله ونحل ضاله مثل الهندوس والماركسيين ونحوهم،
فإننا نجد أن هذا الفريق الرابع يريد أن يحارب كل أحد ولا يعي أن للمسلمين أي عمل سوى الكفاح والقتال فقط،
في حين أن الإسلام أحكامه متوازنة لأنها من عند الله عز وجل،
ففي الإسلام أحكام خاصة بالقوى الدولية غير المسلمة التي تتعايش بسلم وعدل مع المسلمين،
وأيضا هناك أحكام خاصة بمن يعتدون ويظلمون ويستكبرون على كل حق وكل عدل ويطمعون في الاستئثار بخيرات الأرض و نهب أملاك الناس،
ولكن فريق المسلمين (الكيوت) أغفل جوانب القوة بينما الجهاديون أغفلوا جوانب التعايش والسلم مع غير المسلمين من المتعايشين المسالمين.
سبب عدم احترافية النخب والحركيين المسلمين
وهذه الملاحظات الأربع توضح لنا جانبا من أسباب عدم احترافية النخب والحركيين المسلمين الذين يمارسون العمل السياسي داخليا أو دوليا بسبب الخلل الفكري في فقههم السياسي الإسلامي المعاصر،
فإن أي سياسة بلا قوة ونفوذ هي سياسة عاجزة، وأي سياسة تعتمد على القوة فقط هى سياسة عرجاء وعمياء.
كما أن أي سياسة تعيش على اجترار قضايا أكل عليها التاريخ وشرب لم تعد موجودة الآن فهي سياسة بلا عقل.
وأى سياسة تعيش على استرضاء أعدائها المعتدين الظالمين المستكبرين فهي سياسة عقيمة وعاجزة ولن تثمر أي ثمرة مفيدة ولن تحقق أي هدف.
إن إدراك أحكام فقه السياسة الشرعية بشكل منضبط بمعايير الشرع الحنيف يمكن السياسي المسلم الخبير من صنع استراتيجية سياسية إسلامية صائبة،
ومن ثم فبعدها يختار التكتيكات المناسبة لتحقيقها، لأن استراتيجية بلا تكتيك مناسب هي مجرد سراب بقيعة، وممارسة تكتيكات بلا استراتيجية فليست إلا حرث في ماء البحر.
المصدر: الأمة اليوم