تعد قناة بنما شريانًا حيويًا للتجارة العالمية، لكنها تواجه اليوم تهديدًا وجوديًا بسبب التغيرات المناخية، حيث تعاني من آثار ظاهرتي النينيو والاحتباس الحراري، مما يهدد استقرار الاقتصادات المعتمدة على هذا الممر الملاحي الاستراتيجي.
تعتبر بنما من أكثر دول العالم تأثرًا بالتغيرات المناخية بسبب صغر مساحتها وقربها من خط الاستواء، ويُلاحظ تراجع واضح في منسوب المياه بالأنهار والبحيرات والخلجان رغم أنها من أكثر دول العالم من حيث معدلات هطول الأمطار.
ظاهرة النينيو
وترجع هذه الأزمة إلى ظاهرة النينيو المناخية التي تعاني منها البلاد منذ سنوات، وهي فترة من ارتفاع درجات الحرارة تصاحبها موجة جفاف حادة تليها أمطار غزيرة تسبب فيضانات مدمرة، وفي المقابل تزيد ظاهرة الاحتباس الحراري من حدة الأزمة بسبب ارتفاع تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي مما يرفع حرارة الأرض والمحيطات.
اختلال فى التجارة العالمية
وتؤثر هاتان الظاهرتان مباشرة على قناة بنما، ويؤدي الارتفاع الحراري والجفاف إلى انخفاض كبير في منسوب بحيرة جاتون المصدر الرئيسي للمياه العذبة في القناة، مما أجبر هيئة القناة على فرض قيود على عدد السفن وحجمها المسموح بعبورها، ما أدى الى تأخير وزيادة تكاليف الشحن واختلال في التجارة العالمية.
وشهد عاما 2023 و2024 جفافًا استثنائيًا تسبب في انخفاض حاد بمستوى البحيرات الصناعية المغذية للقناة، مما أثر سلبًا على حركة الملاحة فيها وبالتالي على الاقتصاد الأمريكي، حيث أن أكثر من 80% من السفن العابرة للقناة أمريكية.
خفض عدد السفن
وأدى انخفاض منسوب الخزانات إلى إبطاء حركة البضائع في القناة خلال معظم العام الماضي، ونظرًا لنقص المياه الكافية لرفع وخفض السفن في الأحواض، خفض المسؤولون عدد السفن المسموح بعبورها الصيف الماضي مما تسبب في خسائر كبيرة لشركات الشحن العالمية.
ويعني انخفاض سعة العبور انتظار السفن لفترات أطول للمرور عبر القناة، مما يؤدي إلى تأخير جداول الشحن وزيادة أوقات الانتظار في الموانئ القريبة وزيادة تكاليف الشحن على الطرق الأطول أو الحاجة لدفع أسعار إضافية لضمان المرور.
توفير المياه العذبة
وأكد المتحدث الرسمي ومؤرخ هيئة قناة بنما في تصريحات اعلامية، أن اهتمامات القناة الحالية تركز على المياه ليس فقط المستخدمة في عمليات رفع وخفض السفن والتي يعاد تدوير أكثر من 75% منها، بل أيضًا توفير المياه لنحو نصف سكان بنما أي حوالي 2.5 مليون شخص عبر البحيرات الصناعية المكونة للقناة.
بناء سد
وحتى تواجه بنما مخاطر الجفاف والفيضانات اقترحت هيئة القناة بناء سد على نهر إنديو بتكلفة 1.6 مليار دولار ليعمل كمنظم خلال فترات الجفاف والأمطار الغزيرة، لكن اعتراضات السكان الأصليين والجماعات البيئية عطلت المشروع لسنوات.
وتضغط واشنطن على بنما لبناء السد المنتظر لمعالجة أزمة إمدادات المياه في القناة، فيما تفعل الحكومة اليات جديدة ومستحثة لمعالجة الامر الجلل.
تأثر سلاسل الامداد
تؤثر الأزمة الحالية في قناة بنما بشكل مباشر وغير مسبوق على سلاسل الإمداد العالمية مما يخلق تحولات كبيرة في طرق التجارة البحرية ويدفع الشركات العالمية لإعادة تقييم استراتيجياتها اللوجستية بما في ذلك الاعتماد المتزايد على قناة السويس كبديل استراتيجي مع استمرار تحدياتها الخاصة، تجنبا لطريق رأس الرجاء الصالح.
تأثير مباشر
أدت القيود المفروضة على عدد وحجم السفن في قناة بنما إلى اضطرابات كبيرة في سلاسل التوريد العالمية، حيث تسببت فترات الانتظار الطويلة أمام القناة في تأخير شحن البضائع بأسابيع مما أثر على توقيت تسليم السلع في جميع أنحاء العالم وارتفعت تكاليف الشحن بشكل ملحوظ بسبب الحاجة إلى طرق بديلة أو دفع رسوم إضافية لضمان الأولوية في العبور كما اضطرت الشركات إلى اعتماد طرق أطول مما زاد من استهلاك الوقود ووقت النقل وانعكس ذلك على الأسعار النهائية للمستهلكين.
التحول نحو قناة السويس والطرق البديلة
مع استمرار أزمة قناة بنما شهدت قناة السويس زيادة ملحوظة في حركة الملاحة، حيث أصبحت البديل الرئيسي للعديد من خطوط الشحن خاصة بين آسيا وأمريكا الشرقية، – تجنبا لطول المسافة لطريق رأس الرجاء الصاح- وقد سجلت قناة السويس زيادة في عدد السفن العابرة وحمولتها .
تحديات أمام قناة السويس
رغم الاستفادة الواضحة لقناة السويس من أزمة بنما إلا أنها تواجه تحدياتها الخاصة حيث تشهد ضغوطًا متزايدة على قدرتها الاستيعابية مما قد يؤدي إلى ازدحام محتمل وزيادة أوقات الانتظار، كما أن التوترات الجيوسياسية في المنطقة خاصة في البحر الأحمر وخليج عدن تفرض مخاطر أمنية على السفن العابرة.
تداعيات اقتصادية متعددة المستويات
أدى التحول نحو قناة السويس إلى زيادة في الإيرادات لمصر من رسوم العبور مما يمثل دعمًا للاقتصاد المصري في الفترة الحالية لكن هذه الزيادة قد تكون مؤقتة وتعتمد على استمرار أزمة قناة بنما، من ناحية أخرى تسبب ارتفاع تكاليف الشحن في تضخم أسعار العديد من السلع المستوردة خاصة في الأمريكتين مما يضغط على الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على الواردات عبر المحيط الهادئ.
استجابات استراتيجية من الشركات العالمية
تبحث الشركات العالمية عن حلول دائمة لأزمات النقل البحري بما في ذلك تنويع وسائل الشحن واعتماد تقنيات تتبع أكثر تطورًا لتحسين كفاءة السلاسل اللوجستية، كما يزيد الاهتمام بطرق النقل متعددة الوسائط التي تضم الشحن البحري والبرى والسكك الحديدية لتقليل الاعتماد على الممرات المائية.
آفاق مستقبلية
من المتوقع أن تستمر تأثيرات أزمة قناة بنما على المدى المتوسط حتى مع تحسن الظروف المناخية، لأن الحاجة الان ملحة إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية للممرات المائية العالمية، كما تبرز الأزمة الحاجة الملحة لتطوير استراتيجيات تكيف مناخية أكثر تطورا في وجه التغيرات المناخية المتسارعة.