الأحد يوليو 7, 2024
بحوث ودراسات

أسامة الهتيمي يكتب: أسئلة ما بعد الدكتور محمد عمارة

في الذكرى الرابعة لوفاة المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة أعيد نشر ما كنت كتبته عقب رحيله رحمه الله..

ربما لم يكن خافيا على المتابعين أنه في مقابل تلك الحالة الجنائزية التي انتابت قطاعات جماهيرية كبيرة من المثقفين والباحثين خاصة في مجالات الفكر الإسلامي جراء وفاة المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة كان هناك البعض ممن عكست تعليقاتهم نوعين من المشاعر أحدهما شعور بالارتياح من التخلص من مثل الدكتور عمارة بما مثله من مدفعية ثقيلة نجحت وعلى مدار عقود في إلجام ألسنة المعادين للفكر الإسلامي وثانيهما حالة من الضيق والغيرة بعد أن تكشف لهؤلاء إلى أي مدى استطاع الدكتور عمارة أن يحقق شعبية كاسحة على الرغم من كل محاولات التضييق التي فرضت عليه وعلى أمثاله فلم ينالوا ما حظي به الآخرون – ممن لا يستحقون تصدر المشهد الثقافي والسياسي – من فرص الظهور والتنجيم الممنهجة.

وبعيدا عن وصف المشاعر وتباينها فإن خسارة الدكتور عمارة ابتلاء كبير ومصاب جلل يستتبع وبسرعة شديدة تجاوز محنة الشعور بفداحتها لنطرح التساؤلين الأهم والأخطر حول الذي كان يميز الدكتور عمارة عن غيره؟ ومن يستطيع أو بالأحرى من أولئك الذين يستطيعون أن يقوموا بالدور الذي كان يقوم به رحمه الله؟ ومن ثم فلا تأخذنا حالة التحسر طويلا فنضحى فضلا عن خسارتنا للدكتور عمارة فاقدين للواقع وللمستقبل وهو المنهج الذي تبعه الدكتور عمارة نفسه حيث أشار إلى استشعاره للمهمة الثقيلة التي ألقاها على كاهله الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي خلال عزاء شيخ الأزهر الراحل الشيخ جاد الحق علي جاد الحق فكان ما كان من إنتاجه الفكري الذي مثل ولا يزال سلاح مقاومة أمام تلك العواصف العاتية.

والحقيقة أن إجابة التساؤلين ليست أمرا هينا فبعض الإجابة يستلزم بالأساس وعيا عميقا بالمشروع الفكري للدكتور عمارة سواء ما ظهر منه للنور وما كان يخطط لإخراجه -رحمه الله- ولم يمهله القدر وبعضها يحتاج لروح فكرية فدائية تمنح صاحبها القدرة على التزام الموضوعية في الطرح دون الخشية من حالتي الاستقطاب أو الإرهاب الفكري السائدتين في الوقت الحالي.

غير أنه وعلى الرغم من تلك الصعوبة فإن هذا لا يمنع أن يساهم كل حسب استطاعته في تقديم ما يشكل ملامح تلك الإجابة ليتحدد بشكل أقرب للدقة كيفية التعاطي مع مرحلة ما بعد الدكتور عمارة والتي يفترض أن تشهد مخاض إنتاج مفكرين جدد يحملون الراية ويملؤون الفراغ الذي يعد ملؤه في نظري واجب مقدس سيكون تحقيقه الوسيلة الأهم لتحصين الكثيرين من الوقوع في فخ التشويه والتضليل الممنهجين من قبل الذين يعملون بنظرية “الفرصة”.

ولعل أول ما يمكننا أن نشير إليه تلك البديهية المتعلقة بالفارق بين العلم والفكر ليس فيما يتعلق بطبيعة أدلة كل منهما ولكن فيما يختص به الفكر من ديمومة التحليل والتركيب والنقد وهي العقلية التي كان يتسم بها الدكتور عمارة وعليه فإن إشكالية الفرق بين الدكتور عمارة وغيره الكثير من الباحثين والأكاديميين ليست تحصيلية أو معرفية فحسب بل على العكس فإنه ليس مستبعدا أن يكون بعض الباحثين وفي بعض مجالات الدرس والبحث الإسلامي أكثر حفظا وإطلاعا من الدكتور عمارة نفسه وبالتالي فإن الإشكالية الفارقة هي قدرة الدكتور عمارة على النظر بشكل موسوعي وبانورامي والاستنباط والفك والربط وإدارك المقاصد والأهداف العليا وهو أمر لا يتأتى لكل باحث أو أكاديمي ليست لديه الجرأة على تجاوز حدود حديقة مجال تخصصه.

وبطبيعة الحال فإن امتلاك مثل هذه العقلية يحتم على صاحبه أن يكون لديه مشروعه الفكري فالأمر بالنسبة له ليس ترفا أو تصنعا وإنما نداء خفي وإلحاح داخلي ليس أمامه إلا الاستجابة له مهما كانت التكلفة والتضحيات فالمسألة إذن رسالية بالدرجة الأولى الأمر الذي يكسب صاحبه قوة إيمانية وحصانة نفسية ومقاومة روحية قادرة على أن تستصغر كل ما دون الرسالة دون الوقوع في الأفخاخ التي تزداد يوما بعد يوم.

ولا يعيب الدكتور عمارة في هذا الصدد ما يعتبره البعض حالة تقلب فكري حيث الانتقال من اليسار -«الذي لم تكن مرحلة تبنيه شيوعية محضة»- إلى الفكر الإسلامي بل على العكس ربما مثل هذا التحول الفكري نقطة قوة كبيرة في فكر الدكتور عمارة على مستويين الأول أن مرحلته الإسلامية تمثل النضج الفكري كونها كانت التالية وليست الأولى فضلا عن أنها جاءت بعض مسيرة بحثية ليست بالقليلة ورحلة تأملية استمرت سنوات سجنه التي قاربت على الست سنوات وانتهت في 1964 بل وامتدت حتى بعد منتصف السبعينيات من القرن الميلادي الماضي ومن ثم فقد جاء انتقاله بعد مراجعة عميقة ووعي كامل بالطروحات اليسارية بما تضمنته من موقف رافض للدين أو متحفز ضد ثوابته وأما الثاني فقد منحت تلك المرحلة الدكتور عمارة سواء بشكلها السياسي التنظيمي أو الفكري الأيدلوجي قدرة فائقة على مناورة أتباع هذه الاتجاهات وتسليط الضوء على ما يخفى على الكثيرين من الذين لم يخوضوا تجربة الانتماء السياسي أو الأيدلوجي وهو ما كان يلزم هؤلاء الحذر من الخوض فيما يمكن أن يفنده الدكتور عمارة ويرده عليهم ويعري افتراءاتهم وبالتالي لم ينهجوا في حضوره ما كانوا ينهجونه في غيابه حيث التفوه بالترهات والزهو بالأباطيل مراهنين في ذلك على جهل الآخرين الذين لا يملكون الرد وكأنهم يتمثلون وبشكل دائم ما يمكن أن ينطق به الدكتور عمارة قائلا لهم «إحنا دافنينه سوا».

وبالطبع يشترك الدكتور عمارة في ذلك مع عدد من المفكرين الإسلاميين الذين شهدوا ربما نفس التحولات الفكرية يبرز منهم الكاتب والمفكر الإسلامي الراحل الأستاذ عادل حسين الذي اهتم بالفكر السياسي الإسلامي والمفكر المستشار طارق البشري الذي اهتم بتاريخ الحركة الوطنية والمفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي اهتم بالفلسفة الأمر الذي أكسب كتاباتهم وإسهاماتهم الفكرية أهمية بالغة تمايزت عن غيرها في هذه المجالات التي طرقوها.

كذلك فإن ثمة نقطتين في غاية الأهمية ترتبا على هذه التجربة السياسية والفكرية التي مر بها الدكتور عمارة:

الأولى أنها أكسبته قدرة تنظيرية رائعة لم تتوافر للكثير من الباحثين والأكاديميين الإسلاميين بل لا نكون مبالغين إذا قلنا إنها كانت أحد أهم ما قدم الدكتور عمارة لقطاع شعبي واسع ربما أبهرته هذه القدرة التنظيرية وكانت صاحبة الفضل الكبير في أن لفتت نظر الكثيرين من غير النخبة للاطلاع على كتاباته ومن أهمها مناظرة معرض الكتاب المشهورة عام 1992م “الدولة الدينية والدولة المدنية” ليكون بعدها الدكتور عمارة الكاتب الإسلامي الأول والمفضل لدى الإسلاميين الناشطين حركيا وفكريا.

والثانية أنه كان لها أثرها الواضح في تحديد ملامح المشروع الفكري للدكتور عمارة فقد ألقت التجربة بظلالها على كينونة هذا المشروع حيث استشعر الراحل خوفا على الهوية الإسلامية نتيجة موقفين كلاهما لا يعبر في نظره عن الإسلام الأمر الذي دفعه إلى القيام بعبء الرد على ذلك من خلال مشروعه الذي قال عنه: «وهذا المشروع الذي بدأته وكنت  حريصا على الاستمرار فيه، يهدف إلى إلقاء أضواء جديدة بمنهج جديد على الفكر التراثي والفكر الإسلامي وتحقيق نصوص من التراث القديم، والتراث الحديث بحيث نستطيع أن نكون عقلية علمية مرتبطة بأصولها الفكرية وتعيش العصر الذي نحن فيه، لأن القضيةً التي نعاني منها في ثقافتنا الإسلامية هي أن لدينا أناسا متغربين لا يعرفون إلا الغرب، أو أناسا تراثيين لا يعرفون إلا التراث القديم، فهناك استقطاب في الحياة الفكرية: قوم يتقنون الكتابة في الإسلاميات، لكن لا يستطيعون محاورة الأفكار الأخرى وكسر شوكتها، وآخرون يتقنون الفكر الغربي، ويجهلون قضايا الفكر الإسلامي، فكان مشروعي يستهدف تكوين عقلية إسلامية مرتبطة بالهوية الإسلامية والجذور الإسلامية، وفي الوقت نفسه قادرة على رؤية الإسلام في ضوء الفكر الآخر، ورؤية الفكر الآخر في ضوء الإسلام، وهذا يجعلنا نكتشف ميزات وتفرد الإسلام إذا قارناه بالآخر.هذا المشروع حاولت تأصيله في كتبي التي وصلت إلى أكثر من 200 ً كتابا».

يشبه الفرق عندي بين الدكتور محمد عمارة -رحمه الله- وغيره الكثير من المفكرين كالفرق بين ذلك المفتي الذي يرى في أعين الناس أو وجوههم صدق الرغبة في اتباع ما يأمر به الشرع أو ينهى عنه وبين آخرين من غير الصادقين الذين يبحثون عما يبررون به سلوكهم ومفت آخر يردد الحكم الشرعي دون الوعي بحال المستفتي أو كالفرق بين ذلك العالم الذي قدر له أن يسافر ويطلع على الكثير من ثقافات وعادات وتقاليد الشعوب ما أكسبه خبرة وعلما “فمن رأى ليس كمن سمع” وبين ذلك الذي لم تتأتى له هذه الفرصة فلم يزد علمه عما تضمنته الكتب ووسائل الإعلام وكذلك كالفرق بين المفسر الذي منحه الله علم الموهبة والقدرة على الحوار مع الآيات والألفاظ والمعاني ولمس القضايا والإشكاليات وذلك الذي لا يتجاوز تفسيره شرح الألفاظ وسرد الآراء وعليه فإن الدكتور عمارة لم يكن فقط خزانة علم أو رأس حوى الكثير من الكتب والمجلدات فهذا ربما يشاركه فيه الكثيرون بل ويتفوق فيه البعض عليه وإنما كان -رحمه الله- بارعا في توظيف قراءاته توظيفيا فكريا غاية الروعة من خلال الوقوف على ملاحظات والخروج منها بلفتات ربما مرت على غيره فلم ينتبه لها بل وربما لم ينشغل بها من الأساس.

وأهمية انعكاس ذلك على مشروع الدكتور عمارة الفكري هو استحضاره للثغرات التي يجب أن يقوم بملئها والاهتمام بها فلم ينصب اهتمام عمارة على القيام بعملية إنشاء «البناية» دون الانشغال بأدق التفاصيل التي تساعد على تجهيز البنية التحتية وتأهيل هذه «البناية» للسكن والإقامة على أفضل حال مراعيا كل الأحوال والظروف والأجواء المحيطة بها.

لقد أدرك الدكتور عمارة ومنذ البداية رهانات العلمانيين التي منحتهم الكثير من الفرص للاستئساد وارتداء أثواب المنتصرين ومن ثم فقد جعلها نصب عينيه لا تغيب عنها أبدا والتي كان منها مثلا تركيز اهتمام الإسلاميين في قراءتهم وتحصيلهم على العلوم الشرعية دون كثير انتباه لأهمية الإلمام بتاريخ الشعوب وفلسفاتهم واسهامات غير المشايخ والفقهاء بما صور هؤلاء وكأنهم في حالة انغلاق تام عن المتابعة والانفتاح على العالم ومتابعة التطورات العلمية والفكرية التي تجري من حولهم وعدم النظر في آراء مخالفيهم أو اجتهادات المجتهدين غير التقليديين فيما أنهم -أي العلمانيون- على عكس هؤلاء تماما وبالتالي فهو اسقاط ضمني على الإسلام حيث يستغل العلمانيون ما يعتبرونه جهلا فيقدمون التجارب البشرية السياسية والفكرية والفلسفية في أبهى صورها وكأنها غاية ما يأمله البشر ويطمحون إليه دون إشارات قوية أو دالة على العثرات التي مرت بها هذه التجارب حتى نضجت.. فضلا عن الضحايا التي تكبدتها الإنسانية جراء الصراعات السياسية والفكرية والفلسفية بين الرؤى البشرية المتباينة ولا حتى الإشارة إلى العنصرية التي لا زالت ورغم البهرجة تتسم بها الأطروحات الرائجة والحاكمة لما يسمى بالمجتمع الدولي في الوقت الحالي.

كذلك فقد انتبه -رحمه الله- لخطورة خطة هؤلاء بشأن محاولاتهم تشويه التاريخ الإسلامي من خلال التركيز على نقاط الضعف التي تخللت بعض مراحله أو تلك السلوكيات الخاطئة التي ارتكبها بعضهم وإصرارهم على الترويج إلى أن الإسلاميين يتعاطون مع الحكام وكأنهم ملائكة وليسوا بشرا فضلا عن تجاهل حيثيات كل سلوك والحكم عليه وتقييمه وفق معايير غير زمانه فاتبع منهجا أكثر موضوعية مميزا بين التجربة البشرية وبين حزمة القواعد والمبادئ التي يفترض الاحتكام إليها ومن ثم تقييم هذه التجارب في إطار سياقها التاريخي والسياسي والظرفي.

ولم يغفل الدكتور عمارة وهو يسير في طرح مشروعه الفكري الرد على تلك الشبهات التي ما فتأ يرددها العلمانيون بين الحين والآخر دون ملل أو كلل متجاهلين جهود تفنيدها وكأنهم صم بكم عمي لا يسمعون ولا يبصرون فكان هو أيضا يتبع منهج التكرار في الرد والدحض دون ملل أو كلل وبأساليب مختلفة غير مكتف في الوقت ذاته بالبقاء في موقع الدفاع بل كثيرا ما اتخذ موقع الهجوم فيما لم ينجرف على الإطلاق لمحاولات هؤلاء المستميتة لحصره في خندق المتشددين والمتطرفين الذين ربما آثروا في خياراتهم الفقهية انتقاء الآراء والمواقف الأكثر تشددا في الإسلام بل على العكس فقد كان هو نفسه منتقدا وبشدة لمنهج هؤلاء رافضا مقولاتهم بأن ما يطرحونه يمثل الصورة الصحيحة للإسلام غير عابئ بما يمكن أن يناله -وقد كان- من قبل هؤلاء من نقد وهجوم وصل إلى أقصى حدوده فقد كانت قناعته دائما أن المخلصين من بينهم سيعودون للحق يوما ما.

وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أن البعض ربما يرى أن العلم بما سبق لم يكن سمة مميزة للدكتور عمارة وأمثاله فحسب وهو رأي إلى حد كبير صحيح غير أن ما قصدناه ليس مجرد العلم ولكن إدراك ذلك واستحضاره دائما فالفارق شاسع جدا بين مجرد العلم والاستحضار الذهني خلال طرح المشروع الأمر الذي دفع الدكتور عمارة إلى التعمق في دراسة العقيدة الإسلامية والفلسفة الغربية والتاريخ الحديث والإلمام بالجوانب الحضارية والوعي بالإسهامات والمشاريع الفكرية خاصة لدى رجالات ما اصطلح على تسميته بعصر النهضة سواء من حسب منهم على الإسلاميين أو حتى أولئك الذين قوبلت اطروحاتهم في وقتها بالرفض والإنكار والنقد فكان بذلك مرهقا لهؤلاء الذين ترسخ لديهم قناعة بأن “المشايخ” لا تتجاوز قدراتهم حفظ المتون ومطالعة كتب العلوم الشرعية.

ولقد تجسدت أبرز النتائج على ذلك في أخطر جوانب مشروع الدكتور عمارة الفكري والذي أثار جدلا كبيرا ليس فقط فيما بين الإسلاميين والعلمانيين بل أيضا في أوساط الإسلاميين أنفسهم وهو الجانب المتعلق بتوسيع دائرة الإسلاميين داخل صفوف من كان يصنفهم العلمانيون كمرجعيات فكرية لأطروحاتهم وروادا لما أطلق عليه عملية «التنوير» التي يستخدمها العلمانيون كذريعة للانقضاض على الإسلاميين إذ سلك عمارة منهجا مختلفا في التعاطي مع هؤلاء «التنويريين» فلم ينظر إليهم باعتبارهم مخالفين كما فعل البعض ممن أساء الفهم أو نظر إلى الأفكار والمواقف بعين واحدة أو تماهى مع أحد طرفي نزاع فكري ربما نتج عن تنافس سياسي في مرحلة بعينها أو حتى اعتمد في التقييم وإصدار الأحكام على ما روجه العلمانيون بشأن هؤلاء وهو المنهج الذي بقدر ما  آلم العلمانيين أثار أيضا حفيظة قطاع كبير من الإسلاميين.

وتكمن خطورة هذا الجانب من مشروع الدكتور عمارة في أنه أفسد على العلمانيين المصريين والعرب سلاحهم الذي ما فتأوا يستخدمونه في مواجهة الإسلاميين ومن ثم فقد تمكن من أن يرد على العلمانيين من مقولات «التنويريين» أنفسهم ويكشف أن هؤلاء تعاطوا مع اطروحات «التنويريين» بالكثير من الابتسار والاجتزاء كما هو الحادث مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين أو تجاهل التطور الفكري الذي انتاب الكثيرين منهم كما هو الحادث مثلا مع زكي نجيب محمود وطه حسين أو حتى ميشيل عفلق -مؤسس حزب البعث السوري- الأمر الذي حرم العلمانيين من الاستئثار بهؤلاء الرواد.

وعلى الرغم من أن الدكتور عمارة أتعبه النقد المكثف الذي وجهه له الإسلاميون قبل العلمانيين بشأن هذا الجانب حتى أن بعض الإسلاميين كان يصف منهج الدكتور عمارة بأنه «تلفيقي» إلا أن هذا لم يثنيه على الإطلاق عن مواصلة نهجه والعمل قدر استطاعته على لفت الانتباه إلى إعادة قراءة الاطروحات والمشاريع الفكرية السابقة وتقييمها من منظور شمولي وليس من منظور جزئي يبرز نقاط الخلاف ما ساهم بشكل كبير في وجود جيل جديد من الإسلاميين قادر على أن يعيد النظر بالفعل إلى هذه الإسهامات انطلاقا من أنها رؤى اجتهادية فرضتها المستجدات وحالة من تناطح الأفكار وتلاقحها.

لقد حاول الدكتور عمارة بهذا الجانب المهم من مشروعه الفكري التأكيد على فكرة الاتصال والتسلسل والتنوع كون أن هذه الإسهامات لا تخرج عن دائرة بعينها الأمر الذي أوجد حالة من الارتياح النفسي أو إن شئنا الدقة حالة من المصالحة الفكرية لدى هؤلاء المنبهرين بما قدمه «التنويريون» وبين ثوابت الهوية الدينية والوطنية.

كذلك لا يمكن أن ينكر أحد دأب الدكتور عمارة على المتابعة الخبرية ورصد الحوادث والمستجدات فلم يكن الرجل من نوع مفكري الأبراج العاجية أو أولئك الغارقين في مناقشة القضايا بعيدا عن تفاعلات الواقع والمجتمع بهمومه وإشكالياته بل كان يستشعر كل من يقرأ كتابات الدكتور عمارة ومقالاته الحيرة حول اهتمامات الرجل هل هي فكرية أم سياسية؟ وهو ما كان يميزه أيضا عن بعض المشايخ والعلماء الذين لم يكونوا في حالة تفاعل تليق بمواقعهم العلمية والدعوية حتى أن أحدهم – رحمه الله – عندما سألته منذ نحو عقد ونصف عن رؤيته وتقييمه لـ«العولمة»؟

سألني وبشكل عفوي.. وما هي العولمة يا أخ أسامة؟ لأكتشف بالفعل بعد دقائق قليلة أن الرجل لم يكن يعلم مضمون المصطلح وأن سؤاله لم يكن اختبارا لي.

ولا يمكننا أن نتجاهل أيضا لفت النظر إلى أن من أهم ما ميز المشروع الفكري للدكتور عمارة أيضا بعض صفاته الشخصية فغالبا ما يمتزج المشروع الفكري بالأهداف الشخصية لصاحبه فلا يكون نزيها أو موضوعيا بشكل كامل وهي الآفة التي خلا منها مشروع الدكتور عمارة الذي ضحى بالكثير من المصالح الشخصية لأجل إتمام وإنفاذ ما يستطيع منه على خير وجه حتى أنه ترك عمله كأستاذ بالجامعة وقاوم داخل نفسه التطلع الغريزي لأي منصب ليتفرغ لهذا المشروع إذ يقول: «آثرت التفرغ للبحث والكتابة، وتركت الوظيفة الحكومية وزهدت في التطلع للمناصب منذ تخرجت في كلية دار العلوم، وفضلت أن أظل حرًا مشتغلًا بالعلم، وأن أكون كالجالس على «الحصيرة»؛ لأن الجالس على الحصيرة لا يصيبه الأذى إذا ما وقع من عليها».

ولا ننسى أن نشير إلى أن الدكتور عمارة أيضا لم يخضع للابتزاز أو للإرهاب الفكري خاصة وأن رحلة عطاءه الفكري مرت بتجارب سياسية شهدت في بعض مراحلها حالة صراعية بين أجهزة الدولة وبعض الجماعات الإسلامية التي نهجت العنف واستخدمت السلاح وهي المراحل التي استغلها -ولا يزال- المناوئون لمشروع عمارة على الرغم من أن رفض عمارة للعنف لم ينحصر في إعلانه لذلك بل وتأصيله للموقف الشرعي لهذا الرفض ما أكسب هذا المشروع الكثير من المصداقية والثبات والصلاحية ذلك أنه لم يكن مفكر النظام السياسي كما لم يكن مفكر الجماعات.

ويبقى أن ما سبق ليس بحثا عميقا حول ملامح وسمات ومميزات مشروع الدكتور عمارة فما قدمته ليس إلا إطلالة وخاطرة سريعة وردت على ذهني عندما ترجل الفارس فيما أننا يمكننا أن نقول وبكل أريحية إن مشروع الدكتور عمارة يحتاج بالفعل إلى مؤسسة بحثية كبيرة للعمل على استكمال ما بدأه رحمه الله.

Please follow and like us:
أسامة الهتيمي
كاتب صحفي، ومحلل سياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب