السبت مايو 18, 2024
مقالات

أسامة حافظ يكتب: بصيرة الفقهاء

كان لي صديق باكستاني يضع مصحفه على أحد الأرفف في المنزل وكان إذا مر بجواره أحنى رأسه لكي لا يكون رأسه أعلى من المصحف.. وكان إذا كان متكئا أو راقدا وسمع أحدنا يقرأ القرآن انتفض جالسا ووضع يمينه على يسراه بأدب.. ورغم أنني كنت معجبا بتوقيره لكتاب الله وتعظيمه له إلا أنني لما لم أجد في السنة هذه الصورة من التوقير لا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الأبرار كنت أحسب أن ما يفعله بدعة مذمومة.

ولما مضت بي السنون وقرأت لعلمائنا الأجلاء أدركت أنني كم كنت متكلفا بعيدا عن الصواب في تفكيري هذا.

فقد قيل للإمام أحمد إن فلانا أنفق ألف دينار لتزيين المصحف قال «ذلك خير ما ينفق فيه الذهب».

ورغم أن الإمام الجليل كان يرى كراهة تزيين المصحف إلا أنه نظر إلى مضمون الفعل الذي ينبئ على تعظيم كبير للمصحف دفع الرجل ليعطى هذا العطاء الكبير لهذا الغرض.. والمعنى أنه لا يوجد عمل يخلو من خليط من المصالح والمفاسد الشرعية، والفقيه هو من يميز بينهما فيرجح أعلى المصلحتين ويستبعد أضر المفسدتين.

 وفى هذا المعنى يجيب شيخ الاسلام ابن تيمية على من سأله عمن يتخذ من مولد النبي صلى الله عليه وسلم موسما مستشهدا بمقولة الامام أحمد السابقة «فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون لهم فيه أجر عظيم لحسن قصدهم وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم» هذا رغم أنه يرى عدم مشروعية هذا الاحتفال.

بل إن له قولا ثمينا حول مشروعية القيام للمصحف يقول فيه «إن السلف لم يكونوا يقومون له وذلك لأن من عادتهم أنهم كانوا لا يقوم بعضهم لبعض حتى كان الصحابة لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من كراهته لذلك والأفضل للناس أن يتبعوا طريق السلف في كل شيء.

فأما إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض فقد يقال لو تركوا القيام للمصحف مع هذه العادة لم يكونوا محسنين في ذلك ولا محمودين بل هم إلى الذم أقرب حيث يقوم بعضهم لبعض ولا يقومون للمصحف الذي هو أحق بالقيام حيث يجب احترامه وتعظيمه ما لا يجب لغيره حتى إنه لينهى أن يمس القرآن إلا طاهر والناس يمس بعضهم بعضا مع الحدث لا سيما وفى ذلك تعظيم حرمات الله وشعائره ما ليس في غير ذلك وقد ذكر من ذكر من الفقهاء الكبار قيام الناس للمصحف ذكر مقرر له غير منكر له».

ومن هنا ندرك لماذا يشدد الأصوليون على أن طالب العلم ينبغي ألا يتصدى للفتوى لمجرد أنه درس من علوم الشرع كذا وكذا بل ينبغي أن يتدرب على أيدي العلماء المخضرمين على كيفية تنزيل القواعد الشرعية على الوقائع ليتعلم فقه الواقع وأعراف الناس وأحوالهم لينزل الحكم الشرعي الصحيح في موضعه وليتعلم الترجيح بين المصالح والمفاسد فيقدم المصلحة الراجحة ويؤخر المفسدة الأكبر فليس ثمة عمل مصلحة خالصة ولا مفسدة خالصة هكذا كانت بصيرة الفقهاء في الفتوى.

Please follow and like us:
أسامة حافظ
رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية - مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب