أقلام حرة

أسامة حافظ يكتب: بين الثابت والمتغير

عانت الكنيسة الغربية في القرون الوسطى من الخلط بين ثوابت الدين ومتغيراته.. فعاملت اجتهادات القسس والمفكرين النصارى معاملتها لثوابت الدين وأصول العقيدة وقدمت على مذبح الدفاع عن تلك الثوابت الآلاف من العلماء والمفكرين عبر محاكم التفتيش الشهيرة بتهمة التجديف والهرطقة لمجرد انهم استخدموا عقولهم في التفكير والاجتهاد فخالفوا تلك الثوابت.. وسالت أنهار من الدماء والتهمت المحارق أرواحا كثيرة وعصارة أفكار مفكرين وعلماء وأبحاثهم فقمعت حرية الرأي وقتلت روح البحث والاجتهاد.

وهكذا عانت المجتمعات الغربية في القرون الوسطى من جمود قاتل جعلها لا تراوح مكانها وتكلست أعضاؤها عن الحركة للأمام بقتل روح البحث والابتكار.

في هذا الوقت كان نبينا العظيم يعلمنا أن المجتهد المستجمع لأدواته له أجره على ذلك الاجتهاد وإن أخطأ وكان علماؤنا يقولون أن رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب بل ذهب بعضهم إلى اعتبار أن كل مجتهد مصيب وأن الصواب يتعدد بتعدد الاجتهادات كان الاختلاف بين الأسس والقواعد الثابتة بقطعيات الدين دلالة وثبوتا وبين الظنيات -وما أكثرها- التي أتاح الشارع الشريف لكل مجتهد أن يعمل فيها فكره وجهده ويختلف مع أهل العلم ما شاء له اجتهاده أن يخالفهم -وما أكثر ما اختلفوا- واضحا أمام الجميع يمارسونه دون أن يخاف أحدهم أن يرهبوه بسطوة السلطان أو حتى بالتشنيع والتسفيه لأن الجميع يدرك أنه يعمل جهده حيث أجاز الشارع له أن يفعل ويثاب على ذلك مهما فعل مادام مستجمعا لشروطه.

وبمثل هذا الانفتاح وبهذه الروح التنويرية – لا نقصد هنا تنوير أدعياء الثقافة عندنا – انطلقت في النفوس روح الجدة والابتكار وانطلق علماؤنا في أفاق العلوم يقودون العالم دون أن يخافوا أن يحاكموا أو يطاردوا أو يشنع عليهم لفكرة قالوها أو اجتهاد اجتهدوه لم يسبقوا إليه او اختلفوا فيه مع غيرهم.. وهكذا صدر المسلمون هذه الروح الوثابة لأوروبا لتبنى عليها أسس نهضتها بعد أن تخلصت من سطوة الكنيسة وجمودها وتسلطها على عقول الناس واجتهاداتهم. ومع دوران الزمن بدأت عوامل الضعف والانتكاس تتسرب إلى تلك الروح العلمية المستنيرة مع ما تسرب لأمتنا من عوامل الضعف وبدأت العقول تتكلس بعد مرونة وتتجمد بعد توثب.

وبعد أن كان الاختلاف الواسع بين المدارس الفقهية طريقا لإثراء الفقه وتنويع سبل النظر في النصوص واستخراج مكنوناته -وهو علم إدارة الحياة وقوانين تسييرها- صار سبيلا للتنازع واستخرج الناس الفروع المختلف حولها ليحولوها إلى ثوابت وأصول يتقاتلون من حولها ويبدعون بعضهم بعضا ويفسقونهم بل ويكفرونهم أيضا ورأينا كتب العقيدة التي تتحدث عن الثوابت القطعية من العقائد تمتلئ بالفروع الفقهية مثل المسح على الخفين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومسائل الإمامة وغيرها.. وكلما اختلفت فرقتان حول فرع من فروع العلم وكثر النزاع بينهما جعلا ذلك الفرع من أصول العقيدة وثوابت الدين وحرموا الصلاة خلف مخالفيهم وبدعوهم أو فسقوهم بل وربما كفروهم أيضا.

وراجت هذه الروح بين كثيرا من أبناء الحركة الإسلامية في هذه الأيام.. فمع ظهور التجمعات الإسلامية التي تعمل للدين وتسعى لنشره من خلال ما تبنت من اجتهادات ومناهج اعتقدت أفضليتها على غيرها وعملت من خلالها.. ثم ومع تقاطع مساحات العطاء والتقائها نشأ الاختلاف حول هذه الاجتهادات من فروع العلم وهو ظاهرة طبيعية كان يمكن أن تكون سبيلا لحوار بناء يثرى الاجتهاد ويستخرج مكنوناته ويصل به إلى أفضل السبل لخدمة الدين.. ولكن كثرة التنازع وقعود الهمم عن الارتقاء جعلت مسائل الاختلاف هذه التي اختلف فيها أهل العلم منذ قرون ولم تكن سببا لتنازعهم وتمزقهم تتضخم لتتحول إلى أصول وثوابت يدور حولها أصحابها – وبدأت كل مجموعة تختار منها ما تصنع منه فكرا يخصها وتطوف حوله وتقيم أمره، وربما تناولت من خالفها بالتبديع والتفسيق والتشهير وبدأ الاجتهاد في فروع الفقه يتحول من وسيلة للبحث والحوار وإثراء العلم والمعرفة إلى صنم جامد متكلس يطوف البعض حوله ويعلون شأنه على أمثاله.

وهكذا رأينا من يبدع أو يفسق من ترك الهدى الظاهر أو من شارك في الانتخابات أو من اختار أورادا من السنة يؤديها في أزمان معينة أو من تعرض لقائد أو زعيم أو مسئول بمدح أو بذم أو من ارتدى الكرافات أو من ارتدى العمائم ذات الألوان أو غير ذلك من فروع والعمل المختلفة.

وليست المشكلة الحقيقية هنا في أن تكثر الجماعات أو تقل ولا في أن تختلف اجتهاداتها أو تتفق ولكن المشكلة الحقيقية في أن يتصور كل واحد أو كل جماعة أن اجتهاده في المسائل الظنية التي تتقلب في فهمها العقول والمدارك هو الحق المطلق وأن ما عداه ليس مجرد خطأ في الاجتهاد -أن كان ثمة خطأ- وإنما هو الباطل والضلال والانحراف عن الدين بالابتداع أو الفسق وهذه في الحقيقة هي أكبر مشكلة تعاني منها الحركة الإسلامية هذه الأيام وتحتاج من الجميع أن ينظر إليها بعين الاعتبار.

أنا لا أدعو أن يتوحد الجميع على رأى واحد فهذا مستحيل ولكن أدعو أن يقدر الجميع رأى بعضهم البعض ويرد إن أراد الرد بالنصح الجميل نصح المحب المشفق الذي يحمل التقدير لجهد من اجتهد ورأيه.

وأدعو إلى أنه إن لم ينجح في الإقناع -وكثيرا ما يحدث- ألا يعتبر أن هناك معركة حربية ينبغي أن ينتصر فيها.

هذه هي الخطوة الأولى نحو فقه منفتح مستنير يجمع ولا يفرق ويبنى ولا يهدم ويعيد للاجتهاد بهاءه وللنفوس الحب الذي أفسده الشقاق والنزاع

أسامة حافظ

رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية - مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights