الأربعاء يونيو 26, 2024
بحوث ودراسات

أسامة حافظ يكتب: حول بحث الوسطية في فكر الجماعة الإسلامية القديم

العذر بالجهل في المجتمع المسلم.. لقد لفت نظري تقصيرنا في محاولة بعث أدبياتنا القديمة وما فيها من حقائق فكرنا اعتدالاً واتزاناً وانفتاحاً على المجتمع بعيداً عن طبول الحرب وصوت الطلقات ولقد تحدثنا كثيراً من قبل عن أنشطة الجماعة الإسلامية قبل غرقها في العنف وعن انتشارها الدعوي الكبير ونشاطها الاجتماعي الواسع وانفتاحها الكبير على المجتمع..

ولكن لأن طبول الحرب وضجيج العنف كان عاليا يصم الآذان.. ولأن الشباب الذي لم يعش هذه الأيام، كان طبيعياً أن تطغي في الأذهان تلك الصورة المليئة بالعنف والغلظة على صورة لم يروها أو يعيشونها، أما الفكر ما كان منه مكتوبا وما لم يكتب فهو أكثر تعبيراً عن تفكير الجماعة ومنهاجها بخلاف الأحداث التي كثيراً ما يتحكم فيها متغيرات أخري خارجية لسنا المؤثر الوحيد فيها بل كثيراً ما تؤثر هي فينا.

فإن الفكر هو الأكثر تعبيراً عن نهجنا ونظرتنا للواقع في ضوء فهمنا للدين وعليه فإن مجموع الدراسات والأبحاث والأدبيات التي كتبتها الجماعة قبل أحداث العنف الأخيرة لم تأخذ حظها من الدراسة ومناقشة دلالاتها على انفتاح الجماعة على المجتمع وحرصها على التفاعل معه.

وبناءً عليه سنقدم -إن شاء الله- في سلسلة مقالات عرض سريع لبعض دراساتنا قبل تلك الأحداث مع رؤية تحليلية لما تطرحه من معان شرعية ودلالة ذلك ارتباطاً بالواقع الذي قامت فيه الدراسة.

وأول هذه الدراسات زماناً وأهمية هي دراسة حول «عارض الجهل وأثره على أفعال المكلفين» وهو ما كنّا نسميه ساعتها «العذر بالجهل».

وقصة هذه الدراسة هي أن الجماعة وفي معرض انفتاحها على كل التوجهات والتيارات الفكرية في ذلك الوقت ما كان منها منضماً في جماعات أخري وما كان غير منضم من شيوخ وأئمة وعلماء من غير الجماعات تسلل إلى أطراف الجماعة نتيجة هذا الاحتكاك فكرة تكفير عوام المسلمين الذين يرتكبون عملاً كفرياً جهلاً منهم به ومع حبهم للدين وتمسكهم بفرائضه وحدوده.

وكنا مع حداثة سننا لنا فطر سوية أدركت للوهلة الأولي خطورة مثل هذا الفكر الذي نقل من جماعات أخري متشددة على علاقة الجماعة بالمجتمع ونظرتها لعموم أفراده.. ثم ولما كنا قد تتلمذنا على كتب علماء السلف العظام أدركنا مقدار الخلل الشرعي في هذي الدعوة ومخالفتها للنهج الشرعي القويم.

وسرعان ما بادرنا لدراسة الأمر والدخول في معارك فكرية ومناظرات مع أصحاب هذا الفكر.. وجمعنا في هذه القضية كثيراً من مقولات العلماء من سلف وخلف ونظمنا في هذا الموضوع كلاماً وافياً نستطيع أن نقول إنه استطاع أن يحسم هذه القضية علمياً وما زال أثره حتى الآن وبعد مرور هذه السنين الطويلة موجوداً خاصة في المناطق التي تمركزت فيها الجماعة الإسلامية إذ لا تكاد تجد أثراً لمن يكفر جهال المسلمين بأعيانهم وخاصة في محافظات الصعيد.

ثم ولما دخلنا السجن واجتمعنا مع فلول الجماعات الأخرى بشتى أطيافهم وبما حملوه من ألوان الفكر المختلفة كانت قضية أعذار الجهال واحدة من تلك القضايا حيث فرض علينا أن نعود لهذا الموضوع.. وقام الأخ عصام دربالة وبمساعدة عدد من الأخوة على جمع ما تداولناه من نقول العلماء وإعداد بحث قيم لمناقشة هذا الموضوع وأحسب أنه بحث غير مسبوق في بابه ولعل وجودنا في السجن وتفرغنا للبحث والدراسة ساعد كثيراً في جمع ما تشتت من نصوص وأفكار بتؤدة ودون تعجل وقد ساهم البحث كثيراً في حماية إخواننا..

ويبدأ البحث في مناقشة قضية تكفير الشخص المعين وبيان عدم جواز الحكم بكفره إن أتي عملاً كفرياً قبل التحقق من أهليته لذلك وأنه لا يوجد أي عارض من عوارض تلك الأهلية كالإكراه والجهل والجنون وذلك عن طريق إقامة الحجة الشرعية عليه ممن هو أهلها سواء العالم المجتهد أو الحاكم.. ثم ينتقل في مجموعة من الفصول في مناقشة أثر عارض الجهل على سقوط الأهلية وإعذار البارى سبحانه للجهال من المسلمين ثم الرد على الشبهات التي تثار حول هذا الموضوع وتفنيدها استناداً لنصوص الكتاب والسنة بفهم علمائنا من السلف والخلف.

وقد تم بعد سنوات إعادة صياغة هذا البحث بإضافة بعض التأصيلات لجزيئاته مثل أثر القول بالتحسين والتقبيح العقلي على هذه القضية وبيان أن تسرب هذا الفكر المعتزلي إلي أدبيات أهل السنة هو أصل هذه القضية وكذا القضية الحكم علي أهل الفترة الذين لم تصلم دعوة الرسول وكيف أن المولي عز وجل لا يعذبهم لعدم وصول دعوة الرسول إليهم وبالمثل الحديث عن صغار المشركين الذين لم يكلفوا.

وكان لهذه الدراسة القيمة التي كانت تدرس للأخوة في شتي المراحل والظروف باعتبارها بعضاً من فكر الجماعة أثرها في انفتاح الجماعة على المجتمع والتخلص من النظرة المتعالية التي كان البعض ينظر بها إليه ومعاملة كل من نطق بالشهادتين باعتبارهم أخوة لنا في الدين لهم علينا كل حقوق المسلم فساعدت على اندماج الجماعة في المجتمع والتأثير فيه والتأثر به.

ولا يخفي ورغم مرور كل هذه السنين أن هذه الدراسة -وإن كانت لم تطبع- تعد من أفضل ما كتب في هذا الباب وأن كل من كتب في هذا الأمر بعد ذلك استفاد منها وكان لها أثرها الكبير في تحجيم هذه الفكرة التي تبنتها جماعات أخري متشددة -وهي موجودة بأصولها في محضر محاكمة الجماعة سنة 1981 وموجودة نسخ يدوية منتشرة بين كثير من أفراد الجماعة-.

والحقيقة أننا ومنذ أيامنا الأولي ونظراً لتتلمذنا على كتابات السلف الصالح وانفتاحنا على المجتمع بشتى أطيافه وطبقاته كنا ندرك أن مجتمعنا مهما قصر أفراده أو غفلوا عن أمر دينهم مازال مجتمعا مسلماً وأفراده جميعاً من المسلمين ما داموا يشهدون الشهادتين وأن القول بغير ذلك قول منحرف ينبغي التصدي له.

وكنا ندرك أن القول بغير ذلك فضلاً عما فيه من خلل شرعي -ناقشناه منذ أيامنا الأولي- فإنه يضع أسواراً وانعزالاً حول من يقول به ويعوق سبيل الدعوة للدين واستجابة المجتمع لهم.

وكنا ولا زلنا نعتبر عذر عوام المسلمين بجهلهم إن ارتكبوا عملاً كفرياً دون علم هو بعض من فكرنا ومنهجنا قبل الأحداث وبعدها وأن عموم بلاد المسلمين هي مجتمعات مسلمة وشخوصها مسلمون.. ولا زلنا نؤمل في أن يهرع بعض إخواننا لاستخراج هذا البحث وإعادة صيغته وطباعته لبيان الرؤية الحقيقية الوسطية المعتدلة للجماعة الإسلامية حتى قبل الأحداث التي شوش الإعلام عليها وليساهم في مطاردة الأفكار المتطرفة المنحرفة في الحكم علي الناس لعل الله أن يحفظ لإخواننا علماً يبقي في ميزانهم بعد وفاتهم وانقطاع أعمالهم والله الهادي سواء السبيل.

Please follow and like us:
أسامة حافظ
رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية - مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب