أسامة حافظ يكتب: عم زهدي في السجن الحربي
هناك في داخل كل شخص من المواقف ما يحفر في أعماق عقله وقلبه لا يؤثر فيه تقلب الأزمان ولا يمحوه تغير الفكر ولا المواقف وتظل تلك المواقف كلما ألمت بالذاكرة تستجيش تلك المشاعر وتستعيدها وكأنها في طزاجتها قد حدثت بالأمس لا تزول.
– من هذه المواقف الموقف الذي سأحكيه اليوم والذي حدث بين عم زهدي رحمة الله عليه والد الشيخ كرم زهدي وقصة هذه المواقف أنه لما حدث اغتيال الرئيس المصري أنور السادات وما تبعه من أحداث أسيوط أشاعت هاتان الحادثتان جوا رهيباً من التوتر في أنحاء البلاد فقد كانت الشرطة وقتها في وضع الاتهام بالتقصير ليس أمام أجهزة الدولة فقط وإنما أمام الرأي العام أيضاً إذ يقع هذان الحدثان الخطيران، بما فيها من تخطيط وتسليح وتجنيد أفراد دون أن تتمكن الشرطة من استباق الحدث وإجهاضه.. ثم ماذا وراء هذا الحدث وماذا سيتم بعده لذا كان طبيعياً أن تتحرك أجهزة الأمن بشتى أفرعها تسابق الزمن لاكتشاف التنظيم أو قل التنظيمات الساكنة والمختبئة فضلاً عن النشطة وكانت عمليات الضبط والتفتيش والمطاردات تجري في البلاد على قدم وساق.. وكل يوم تسوق الأخبار تفصيلات جديدة عمن يقتل أو يقبض عليه أو من هو مطلوب وكل من يقبض عليه تختفي أخباره لتتصاعد الإشاعات حوله فتضاعف من مشكلة هذا الاختفاء وتزيد من القلق والذعر والتوتر المصاحب للأحداث وكثيراً ما كان ينال أهل أولئك المطاردين بعضاً من آثار هذه المطاردات تحقيقاً أو اعتقالاً أو ما شابه فيزيد ذلك من خوف الناس وقلقهم.
– أما المتهمون الأساسيون في القضية فقد نالوا أكبر حظ من هذه الإشاعات والتوقعات.. كل هذا يحدث وسط جو إعلامي محموم يطالب بالرقاب والتنكيل ويشيع البلبلة بما ينشره من أخبار مثيرة أكثرها مفبرك ومن تحقيقات ومقالات زادت من خوف الناس وقلقهم.
– ووسط هذا الجو المحموم أعلن عن قرار الاتهام في القضية وتحويل 24 متهماً للمحكمة العسكرية بتهمة اغتيال أنور السادات ومعه سبعة آخرين والشروع في قتل آخرين، غير المساعدة والاتفاق والتحريض وحيازة الأسلحة وكلها تهم عقوبتها في القانون الإعدام.. كيف والمحكمة عسكرية والمغتال رئيس الجمهورية والنيابة تطالب بإعدام الجميع وسط ضجيج إعلامي شديد يطالب برقابهم وسرعة إعدامهم.
– كان المجتمع يتابع الحدث ويترقب النتيجة وكان على رأس هؤلاء أهلونا الذين انقطعت أخبارنا عنهم حتى ظنوا أننا قتلنا في هذه الأحداث أو أننا قتلنا في التعذيب ولم يكن أحد منهم يتصور بقاءنا على قيد الحياة بل لعلهم استغربوا ذلك.. وكانت التجارب السابقة أو ما حكي عنها في الكتب من تفصيلات هي معيارهم في هذا الظن.
– وبينما هم يضربون أخماساً في أسداس ويعيشون ما يحكي لهم مما نلقاه من أهوال ويتشممون أخبارنا مما يذاع ما بين مصدق ومكذب فوجئوا باتصال من السجن الحربي يدعو أهلينا لزيارة أبنائهم.
– كانت مفاجأة للجميع وحار الأهل لا يدرون أيفرحون بنجاة أولادهم وأنهم لا يزالوا على قيد الحياة وأنهم سوف يزورونهم أم يجزعون أنهم في السجن الحربي.. وما أدراك ما السجن الحربي؟ لقد أشاعت الكتابات السابقة عن هذا السجن وما فيه من أهوال ما أشعرهم أن الباستيل إلى جواره شيء ضئيل لهول ما سمعوه عنه.
– وبدأت الزيارات تتوافد إلى السجن وكانت تتم في مكتب نائب المأمور حيث كان الأخ يخرج معصوب العينين إلي هناك ثم ترفع العصابة ويُجاء له بأهله بعد ذلك ويجلس معهم الضابط وكان أسمه محمد عبد السلام ليدخل معهم في الحديث بعبارات تتكرر مع الجميع «يعني عاجبك اللي عملته في أهلك ده.. كويس البهدلة اللي بهدلتها لهم دي – وليه يا أبني تضيع مستقبلك كده وتعمل في نفسك وأهلك كده وأنت مبسوط كده وأنت في هذا الموقف وهذه البهدلة» وعلى هذه الوتيرة تكون كلماته.. وكان الأخ في كثير من الأحيان يطأطئ رأسه حرجاً من والديه وأهله وقد توقع ما تعرضوا له من عنت ومضايقات والتي وصلت مع بعضهم للاعتقال والإيذاء ويهمهم بعبارات المواساة والتصبر وقد ملأه الحرج منهم.
– أما الأهل فكثيراً ما تجاوبوا مع كلمات الضابط بالتأييد سواء كان قولهم تعبيراً عما في قلوبهم من ضيق وألم أو خوفاً من أن يظن الضابط أنهم يوافقون ولدهم فيما فعل فيذهبون -كما تصوروا- وراء الشمس إلي حيث يقبع ولدهم خلف القضبان.
– كانت الزيارة بهذه الصورة تمثل عبئاً نفسياً على الأخ إذ أنه يشعر أن أهله تعرضوا للضرر والإيذاء وأنهم غير راضين عنه وعما فعل.. وكان في حبسه الانفرادي والضيق الذي يعيشه تزيده مثل هذه الكلمات ألما على ألم وضيقاً فوق ضيق.
والحقيقة أننا كنا في قلق من زيارة الشيخ كرم أكثر من غيره.. فعم زهدي رحمة الله عليه كان عاطفياً جداً يخرج ما في قلبه على لسانه بمنتهي الحماس لا يبالي بشيء وكان يحب ولده أشد الحب.. ليس مجرد حب الوالد لابنه المحب البار فقط وإنما هو حب جمع إلى ذلك أخوة وصداقة تزيد تلك الآصرة.. وكان له رأي يخالفه في ذلك الوقت في السادات وكثيراً ما نصحه أن ينظر إليه بعين أخري بعيداً عن حماسة الشباب وتشدده.. وقد تعرض الرجل لمضايقات شديدة وهو رجل حساس يعتز كثيراً بكرامته ويثور إذا استغضب ثورة عاصفة لا يقف دونها شيء.
– وعلى الجانب المقابل كان الشيخ كرم يبادله حبه وتقديره ويحرص على إرضائه في الوقت الذي كان اعتزاز الشيخ كرم بما حدث كبيراً.
– وهكذا خشينا من عاقبة هذا اللقاء الأول وأثره على كليهما وجاء يوم الزيارة ونودي على الشيخ كرم وخرج معصوب العينين كالعادة إلى مكتب الضابط وهو شديد القلق متوجس مما يحدث بينما كنا نحن ندعوا له ولوالده أن تتم الزيارة على خير.
– ودخل عم زهدي ليفاجأ كرم أنه في أحضانه وهو يقول له لا تقلق أنا أبيع عليك البدلة التي ألبسها.. سأحضر لك أفضل محامين.. سأذهب خلفك حيث كنت أنت رفعت رأسي وخليتني أمشي فخور بين الناس وبدأ الضابط يعيد اسطوانته المشروخة فقال «يعني عاجبك اللي عمله ده» فقال عم زهدي رحمه الله: أنا ربيته أحسن تربية.. وهو الآن في قضية شرف.. في قضية الشرع والدين.. تفتكر أحسن ولا أشوفه في قضية مخدرات أو قضية دعارة.
– وعاد الشيخ كرم ومعنوياته في السماء وهو يحكي لنا باعتزاز عبارات والده وما أيقظته في داخله من مشاعر وما فعلته فيه من تثبيت بل قل ما فعلته فينا جميعاً.
رحمه الله.. هو موقف لم يجاوز في عمر الزمن دقائق ولكنه ورغم مرور نحو أربعين عاما لا زال محفوراً في ذاكرتي.. وكلما استعدته -وما أكثر ما استعيده- ترحمت على الرجل ونفسي تجيش بنفس المشاعر التي شعرتها ساعتها طازجة يانعة بالصبر والثبات والثقة في وعد الله.
رحمك الله يا عم زهدي وحشرنا وإياك في الصالحين.