مقالات

أسامة شحادة يكتب: رمضان فرصة لالتزام العبادة والطاعة في زمن الهرج والفتن

أيام قليلة تفصلنا عن قدوم شهر رمضان المبارك، والذي تصفد فيه الشياطين، وتتنزل فيه الرحمات، ويكثر فيه إقبال المؤمنين والمؤمنات على الطاعات وفعل الصالحات، يصوم الناس في نهاره عن المباحات ويقومون ليله بالصلاة والدعاء، يقبل فيه الجميع على تلاوة آيات القرآن الكريم والصدقة على الأرملة والمسكين واليتيم، وتعمر فيه المساجد بالمصلين للفرائض والنوافل، وتضج الشوارع فيه بالتسبيح والتهليل.

يضاعِف فيه الرحمن الثواب للطائعين والطائعات ويختص لنفسه تقدير أجر الصائمين والصائمات، ويَفتح فيه أبواب المغفرة والعتق من النيران، وفي رمضان ليلة القدر وهي «خير من ألف شهر».

في رمضان تنقلب أحوال غالبية المسلمين والمسلمات فتتقرب من باريها بالصيام والطاعات والخيرات وتتجنب المنكرات والفواحش، وتجد تعظيم شهر رمضان جليا في حديثهم وسلوكهم باعتباره شهر القرآن الكريم وفريضة الصيام.

يأتي شهر رمضان هذا العام والمسلمون والعالم يمرون بمرحلة عصيبة كثرت فيها الفتن والأزمات وتزاحمت فيها التحديات وتعددت فيها المصائب والمشاكل والكوارث، ويرافق ذلك كله حروب إعلامية كثيفة بكافة الأسلحة الموضوعية وغير الموضوعية حتى أن سحب غبارها حجبت شمس الحقيقة عن كثير من الناس واضطربت بسببها مواقف الناس، فانقسمت الشعوب والقبائل، بل العائلة الواحدة، بين الأطراف المتصارعة! وبلغ سوء الحال بكثرة أخبار القتل العشوائي للأبرياء والضحايا أن تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من زمن فتنة الهرج كأنه ينطبق على حاضرنا بحذافيره، فعن أبي وائل، قال: كنتُ جالسًا مع عبد الله وأبي موسى، فقالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة أياماً يُرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل ويكثر فيها الهرج» متفق عليه.

ومن يتأمل في حياة كثير من الناس اليوم يجد أنهم يغرقون في دوامة الأزمات والفتن والهرج وغالباً يكون هذا الغرق بشكل سلبي وليس إيجابياً، فهو على كثرة متابعة الأخبار والقنوات ووسائط التواصل الإلكترونية فإنه يصبح ضيق الصدر كثير الضجر سوداوي المزاج يكثر من اللعن والشتم ويكاد يصاب باليأس والإحباط!

وبهذا الحال لا هو نصر الإسلام ولا المسلمين! فقد تجده يكثر من اللعن والشتم للظالمين وينسى الدعاء للمظلومين والسعي لنفعهم ولو بشيء يسير من معونة أو نصيحة أو مساعدة أو شفاعة.

وهو بهذه النفسية المأزومة يشيع مناخاً متوتراً فيما حوله، ويصبح مصدرا للشقاق والفرقة بدلاً من أن يكون مصدراً للعزيمة والأمل والصبر وجمع الشمل.

ومَن وصل إلى هذه الحالة السلبية بالتأكيد ستجده قد تورط في نقل الأكاذيب والأراجيف والشائعات بعد تصديق الخرافات والمستحيلات! وستجده قد ولغ في أعراض الخصوم بالغيبة والنميمة والبهتان! مما قد يهوي به لدركات التكفير للمخالفين له ظلماً وعدواناً، وبذلك يتحول هؤلاء الناس من مراقبين للفتنة والمشكلة والأزمة إلى أن يكونوا جزءا أصيلا فيها، ويصبحوا بحد ذاتهم مشكلة وأزمة تحتاج إلى علاج فتتوسع رقعة الفتنة، وقد يكثر الهرج بسببهم ويَقتلون أو يُقتلون كما نرى اليوم في توظيف المجموعات المتدينة في كلا طرفي الأزمة في أكثر من بلد بما أخرج الفريقين عن الحق، حتى لو كان أحدهما صاحب الحق في البداية!

وللوقاية من هذه الورطة الكبيرة أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم بالحرص على العبادة في زمن الفتنة والهرج وعدم الانزلاق للمشاركة في الفتنة والهرج فقال صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إليّ» رواه مسلم.

فمَن جمع بين فرصة شهر رمضان المبارك التي تُقبِل فيه النفوس على الطاعات وبين التزام وصية النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة العبادة في زمن الفتنة والهرج فيكون قد جمع الحسنيين، ومن تيقظ لهذه النية من بداية شهر رمضان وعزم على أن يجعل العبادة وكثرتها ديدنه في رمضان وبعد رمضان فإنه يكون قد وفق لخير كثير.

وذلك أن النفس تتأقلم مع التكرار والزمن على عادات وسلوكيات جديدة، فمن خطط لاكتساب عادات جديدة من التزام الطاعات والنوافل في رمضان فإن جو رمضان وتضاعف الثواب يحفزه ويشجعه على إنجاز ذلك، فإذا وسع خططه بوعي وجعل من تكرار العبادات في رمضان هدفاً لترسيخ هذه العبادات والعادات عقب رمضان فإنه سيخرج من رمضان وقد خط لنفسه خطاً جديداً إيجابياً باكتساب عادات مفيدة من الالتزام بالأذكار عقب الصلوات وأذكار الصباح والمساء وكثرة ذكره سبحانه وتعالى، أو التزام صلاة الضحى أو السنن الرواتب، أو التزام قراءة وِرد من القرآن الكريم، أو التصدق الدائم والمتكرر ولو بمبلغ قليل، أو الحرص على صيام النوافل، وهكذا من صنوف الطاعات والنوافل والقربات.

فالعاقل الموفق هو من انتهز فرصة رمضان لمراجعة المسيرة والمسار، فيكثر من الطاعات فيه ابتغاء رضا الرحمن ومغفرته، ويحرص على التخطيط بوعي وحرص وتركيز على اكتساب عادة كثرة الطاعة في رمضان وغير رمضان حتى ينجو في زمن الفتنة والهرج ويتخفف أو يتخلص بالكلية من المشاركة السلبية الضارة في الفتن والأزمات المعاصرة.

ومن فوائد كثرة الطاعات والعبادات الصحيحة والسليمة أنها بوابة من بوابات العلم والفهم لقوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبلنا} (العنكبوت: 69) يقول الشيخ السعيدي: وهم الذين هاجروا في سبيل اللّه، وجاهدوا أعداءهم، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته”، لنهدينهم: “الطرق الموصلة إلينا، وذلك لأنهم محسنون”، وكم نحتاج في هذا الزمن الذي يكثر فيه الجهل وتتضارب فيه الآراء إلى الهداية الربانية التي تعصم صاحبها من الظلم والفساد والقتل والتخريب، وترشده للإصلاح وهداية الناس ونفعهم.

أسامة شحادة

كاتب وباحث في شئون الفرق والجماعات الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى