أسامة شحادة يكتب: مشكلة أمية الفهم والإدراك
«لكن تعمى القلوب التي في الصدور»
أمية الفهم والإدراك مشكلة خطيرة وآفة عظيمة لأنها تتسبّب دوماً باتباع الباطل ونصرته، ومحاربة الحق والإعراض عنه، هذه الأمية أو عدم الفهم والإدراك سبب رئيسي للكفر بالله عز وجل والإعراض عن اتباع رسله وأنبيائه، ومن ذلك قوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج: 46).
وفي الآية الكريمة إشارة صريحة إلى أن موضع الفهم والتعقل هو القلب الذي في الصدر، وهو ما بدأ العلم الحديث مؤخرا الاعتراف به والإقرار به وبأن القلب ليس مجرد عضلة ومضخة للدم فحسب!
وفي هذه الآية الكريمة أيضا يعيب ربنا عز وجل على الكفار من بني البشر كيف لا يستفيدون من حواسهم كالسمع والبصر في الفهم والإدراك والتفكر لحقيقة الوجود وغايته وتاريخ الأمم السالفة وحقائق الوحي التي جاء بها الأنبياء والرسل ومن ثم يهتدون للحق بالدخول في دين الإسلام ونبذ الشرك والكفر والعصيان.
فهذا الوجود مليء بالأدلة على صدق الوحي الرباني بأن هذا الكون مخلوق مصنوع من قبل الله عز وجل الخالق المالك، وأنه سبحانه وتعالى سخر لجنس الإنسان ما في السماء والأرض من أجل أن يقوم الإنسان بعبادة الله عز وجل وطاعته ومن ذلك عمارة الأرض والدنيا بالحق والعدل.
والطريف في الموضوع أن دعاة الكفر والإلحاد إنما يسوقون كفرهم وإلحادهم بادعاء زائف بأن الدين يناقض الفهم والإدراك والعلم، بينما الحقيقة أن الكفر والإلحاد هو نتيجة طبيعية لأمية الفهم والإدراك والجهل وعدم العلم واتباع الفرضيات غير المثبتة كنظرية دارون أو التطور الموجه، وإن الدين هو الموافق للعلم والفهم والإدراك، كما يتأكد ذلك كلما تقدم العلم وتطور ووصل لليقين.
وآفة أمية الفهم والإدراك وعدم الاستفادة الصحيحة من معطيات الحواس آفة خطيرة ولها تبعات كثيرة، وهي لا تقتصر فقط على عدم الإيمان بالله عز وجل كما هو حال الكفار والملاحدة، بل يقع فيها بعض المسلمين على مستويات أخرى منها:
1- مستوى أمية الفهم والإدراك لخطورة الأفكار والمناهج المبتدعة، ومن أمثلة ذلك في تاريخنا موقف الإمام أحمد بن حنبل من رفض فكرة خلق القرآن الكريمالتي تبنّتها المعتزلة (دعاة العقلانية المزعومة) وفرضتها بالقوة، ومن أبسط أسباب رفض فكرة خلق القرآن الكريم أن كل مخلوق يجوز عليه الفناء والخطأ والنقص، وهو الأمر الذي أصبح يصرح به دعاة العقلانية اليوم تحت شعار «تاريخانية القرآن الكريم» وأنه صالح لذلك الزمان فحسب!
ومن أمثلة مشكلة أمية الفهم والإدراك لخطورة الأفكار والمناهج المبتدعة في وقتنا المعاصر، تأييد ثورة ملالي طهران التي رفعت شعارات براقة منها الوعد بتحرير القدس وتأسيس فيلق القدس لتلك الغاية، فصفق لها الكثير من الناس، ومنهم علماء وقيادات إسلامية حركية، وقد رفض هؤلاء النصائح والتنبيهات المتكررة ليومنا الحاضر من خطر الفكر المنحرف والطائفي الذي يتبناه ملالي الثورة، وكانت النتيجة أن فيلق القدس الإيراني عاث في الأرض فسادا وفي كل مكان وضد المسلمين وضد الفلسطينيين في مخيمات الشتات، بينما سلِم منه اليهود الصهاينة المعتدون، وهذه آثار فيلق القدس الدموية في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء وغيرها من العواصم لا تزال قائمة،وترى أعينُ الناس سيول الدماء التي أسالوها، وتسمع آذانهم صرخات الثكالى وأنات الجرحى ودوي انفجاراتهم، ومع ذلك لا يزال قسم كبير منهم في ضلالهم سادرون “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.
ومثال آخر لأمية الفهم والإدراك لخطورة الأفكار والمناهج المبتدعة مسارعة كثير من الناس لتأييد جماعات العنف والإرهاب والتطرف كالقاعدة وداعش لأنها رفعت شعارات تحكيم الشريعة والجهاد في سبيل الله وإقامة الخلافة، وبرغم بيان أهل العلم بخطورة منهج الغلو والتحذير من فتنة الأصاغر التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الكثير من الشباب المخلص والمتهور والمغرر به ضرب بكل ذلك عرض الحائط.
ولم يفهم ويدرك الناس والشباب الحقيقة إلا حين ذابت الشعارات وتبينت الحقائق بسيادة الجهلاء والعملاء لهذه الجماعات والذين قادوا الأمور للفساد والدمار دون نتيجة تذكر، ومع ذلك لا يزال البعض يُحسن الظن بهذه الجماعات أو يعتقد سلامة منهج العنف والغلو بسبب حالة الاستبداد والظلم والعدوان برغم كل الحقائق التي ظهرت والتي يراها ويسمعها الناس في كل لحظة، {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
وللأسف لم يستفق معظم الناس لصواب منهج العلماء ودقة حكمهم على هذه الجماعات وثورة الملالي إلا بعد قتل ألوف الناس وتدمير كثير من المدن والممتلكات، فهل نستفيد مما مضى من مصائب وكوارث وتجارب مُرة للغد؟؟
2- مستوى أمية الفهم والإدراك لضخامة الكذب والدجل والتضليل في الأخبار والدعايات السياسية والإعلامية، فبرغم كل التجارب المرة التي عانت منها أمتنا بسبب التضليل الإعلامي والسياسي من حملات أحمد سعيد الكاذبة في إذاعة صوت العرب قبل 50 سنة، أو حملات الردح والشتم اليومية على شاشات الفضائيات حاليا، فلا يزال كثير من الناس، بل والفضلاء، يقع في هذا المطب والفخ بشكل يومي تقريبا، فتراه يروج على صفحاته في وسائل التواصل أو في رسائل الواتساب الإشاعات والتضليل أو تجده يتبنى مواقف حدّية بناءً على أباطيل وأكاذيب.
فإلى متى تبقى أمية الفهم والإدراك في التعامل مع مقاطع الفيديو، حيث من الضرورة فحص المقاطع المصورة قبل نشرها بحيث لا تكون مجتزأة أو قديمة أو ليست ذات صلة بالموضوع أصلا، وخطأ نشر مقطع مترجم دون تثبت من الترجمة.
ولم يعد من المقبول بقاء أمية الفهم والإدراك في التعامل مع الأخبار، بعدم التثبت من صدق الخبر، سواء بمدى معقوليته أو مصداقية مصدر، أو وجود أجندة عدائية أو مناكفة بين المصدر وموضوع الخبر.
إلى متى سيبقى الفضلاء -فضلاً عن عامة الناس- يرون ويسمعون الكذب والتضليل ويقعون في حبائله ثم يتبين لهم مقدار الكذب والتضليل ثم لا يُعملون عقولهم وقلوبهم في تمييز الحق من الباطل في المرات القادمة {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.