أسرارُ البيانِ في القُرآن
البيَانُ في الفَرق بينَ (تَضَرُّعًا وخُفْيَةً) و(تَضَرُّعًا وخِيفَةً)
وهُمَا آيَتَان ورَدَتا في سُورةِ (الأَعْرَاف)؛ قَولُه تعَالى ﴿اُدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾. وقولُه تعَالى ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً﴾. حيثُ يَستوقفُكَ ذَاك التَّبايُنُ الْخَفيُّ في هَذا التَّشَابُهِ الجَليِّ، في قوْلهِ تعَالَى (تَضَرُّعاً وخُفْيَةً)،ثمّ (تَضَرُّعاً وخِيفَةً).
أمّا (التَّضرّع) المشتَركُ فيهمَا، فمَعنَاهُ إظْهَار التَّذلُّل والخُضُوع والمسْكَنَة للهِ تعَالى، منَ الفعْل(ضَرَعَ يَضْرَع).جاءَ في(لسَانِ العَرَب):«ضَرَعَ إِليهِ يَضْرَعُ ضَرَعاً وضَراعَةً: خَضَعَ وذَلَّ، فهوَ ضَارِعٌ». وهَذا المعنَى يَنسَحبُ عَلى الآيَتيْن جَميعاً. إذِ الفِعْلُ هوَ نَفسُ الفِعْل.
وأمَّا(خُفْيَةً) و(خِيفَةً)، فإنَّ اخْتلافَ تَرتيب حَرْفَي:(الفَاءِ واليَاء) فيهمَا، يُظْهِرُ بَداءَةً اخْتلافَهُما. وعندَ النّظر في أصُولهمَا، نَجدُ، ببساطةٍ، أنّ(خُفْيَة)مَصدرٌ، يَأتي منْ(خَفِيَ) الشيءُ(يَخْفَى : خَفَاءً وخُفْيَةً). في حين نَجدُ أنّ(خِيفَةً)مصدَرٌ يَأتي منْ (خَافَ يَخَافُ: خَوْفًا وخِيفَةً ومَخَافَةً.).وهَكذا فمَدارُ(خُفْيَة)عَلى(السَّتْـر والخَفَاء). بَينَما مَدارُ (خِيفَة) عَلى (الخَوْف والخَشْيَة). فَإذا نَظرتَ في السِّيَاق، وجدْتَ أنَّ(خُفْيَة)،مَسبُوقةٌ بالفعْل:(اُدْعُوا)منَ (الدُّعَاء)، بينمَا (خِيفَة) سَبقَها الفعْلُ (اُذْكُرْ) منَ (الذِّكْر).
فإذَا بَحثنَا في أصُول (الدُّعَاء وَالذِّكْر)، وجدْنَا أنَّ (الدُّعَاء) في التَّعبير القُرآنيّ يَنصَرفُ إلى مَعنَيَـيْـن: دُعَاء المسْأَلَةِ، ودُعَاء العِبَادَة. وهمَا معْنيانِ مُتَلازمَانِ؛ يَقولُ(ابْنُ القيِّم)في(بَدَائع الفَوَائد):«كُلُّ دُعَاءِ عِبَادَةٍ مُسْتلزِمٌ لِدُعَاءِ المسْأَلَةِ، وكُلُّ دُعَاءِ مَسْألَةٍ مُتَضمِّنٌ لِدُعاءِ العِبَادَة». وهَذا التَّلازُم يَجعلُ المعنَيَـيْن قَائمَينِ في كُلّ سِيَاقٍ لا يَنْفَكّان، إنَّما قدْ يَكُون أحَدُهمَا في سيَاقٍ أظْهَر منَ الآخَر. وبمَا أنَّ(الدُّعاءَ)قدْ يَدخلُهُ الرِّياءُ إذَا جهَر بهِ العبْدُ، فقدْ حثّهُ علَى إخْفَائِه، ورَغّبهُ في ذَلكَ، ليَخلُصَ لَهُ.
ولَقدْ أثْنَى في ذَلكَ عَلى النّبيّ (زَكَريّاء)، حينَ قالَ عَنهُ:﴿إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾. وقَال(الرّازي) في تَفْسيرهِ: «النَّفسُ شديدَةُ الميْلِ، عَظيمَة الرَّغبَة في الرِّيَاء والسُّمْعَة، فإذَا رَفعَ صوْتَهُ في الدُّعَاء، امْتَزجَ الرِّيَاء بذَلكَ، فلا يَبقَى فيهِ فائدةٌ ألبَتَّةَ، فكانَ الأَوْلَى إخْفَاءُ الدُّعَاء ليَبقَى مَصُوناً عنِ الرّيَاء».
ثمّ إنَّ اللهَ تعَالى سَميعٌ قريبٌ، فالإسْرَار بالدُّعاءِ وإخفاؤُهُ، شاهدٌ علَى تَمثُّل العَبدِ لهذَا المعْنَى واستِحضارهِ لَهُ عندَ الدُّعاءِ. وقدْ أشَار النَّبيّ، عليهِ السَّلامُ، إلى ذَلكَ في قوْلهِ لأصحَابهِ وقدْ رفعُوا أصوَاتهُمْ بالدّعَاء والتّكبِير: «اِرْبَعُوا عَلَى أنْفُسكُمْ، إنَّكُم لا تدْعُونَ أصَمَّ ولا غَائباً، إنَّكُم تدعُونَ سَميعاً قريباً».
تلك كَلمَة (خُفْيَة)، إذْ سَبقهَا الفِعلُ:(اُدْعُوا)،فكانَ إخفَاءُ العَبدِ للدّعاءِ والإسرَارُ بهِ يقطعُ عَلى نَفْسِهِ مَيْلها إلى الرّيَاء والسُّمعَة، ويَفتَحُ لهُ بابَ الإخْلاصِ والخُشُوع. أمَّا كَلمَة(خِيفَة)، فتَختلفُ عَنهَا في مَعنَاها، وإنْ جَانَسَتْـها في مَبْنَاها. إذْ مَدارُ الدّلالَةِ فيهَا عَلى الخَوفِ والخَشْيَة. وأنتَ ترى كيفَ اخْتلفَ السّياقُ فيها أيْضاً، إذْ سَبقَها الفعلُ (اُذْكُرْ)، منَ (الذِّكْرِ).
فإذَا نَظرتَ في أصْلِ هَذهِ الكلمَةِ، وجدْتَ أنَّها منَ الفعْلِ (ذَكَرَ).وهَذا الجذْرُ اللّغويُّ لهُ مَعنَيَان أصْليَان: أحدُهُما أنْ يدُلّ علَى الذَّكَر في مُقَابلِ الأُنْثى، والثَّاني قالَ عنهُ (ابْنُ فَارس) في (مَقَايِيس اللُّغَة): «ذَكرْتُ الشَّيءَ، خِلافُ نَسِيتُهُ، ثمَّ حُمِلَ عَلى الذِّكْر باللِّسَان ». وهَكذَا فالذِّكرُ في الأصْلِ هُوَ ضدُّ النِّسْيَان. إنّهُ اسْتحضارُ شَيْءٍ سَابقٍ مَحفُوظٍ في الذِّهْن والنَّفْس ،قد تَكُون حَجَبَــتْــــــهُ الغَفْلَةُ، أوْ طوَاهُ طُولُ العَهْد.
ويَكونُ (ذِكْرُ اللهِ) علَى هذَا المعْنَى، هُو اسْتِشْعَارُهُ تعَالى بِعظَمَتهِ وعِزَّتهِ وجَبَروتهِ، في النَّفْس، ومَا يَنشَأ عنْ ذَلكَ منْ خَوْفٍ ورهبَةٍ، ويَبْعَثُ فيهَا منْ فَزعٍ وخَشْيَة. ثمَّ يجْرِي كلُّ ذَلكَ ذِكْراً باللِّسانِ، تَسبيحاً وتَكبِيراً وثنَاءً عليهِ تعَالى، بِصِفاتهِ العُلَى وأسمائهِ الحُسنَى. ويمْتدّ إلَى الجَوارحِ امْتِثالاً لما أمَرَ، وَ تَرْكاً لمَا نَهَى. لذَلكَ أتْبَعَ في هذهِ الآيَةِ(التَّضرُّعَ) بـ(الْخِيفَةِ)،بعدَ أنْ أمَرَ بالذِّكْر في قوْلِهِ:﴿وَاؐذْكُر رَّبَّكَ في نَفْسِكَ﴾. فهَذا الذِّكْرُ يَقطعُ النِّسْيَان، ويُوَرِّثُ الخَوفَ والخَشيَةَ، فتَعْقُبُه التَّقْوى.
ولقدْ جَاءَ في (صَحِيحِ ابْنِ حِبّان) حَديثٌ طويلٌ عَنِ النَّبيّ مُوسَى، عليْهِ السَّلامُ، يسْألُ ربّهُ، ومِمَّا سَألَ: «يَا رَبّ، أيُّ عِبَادِكَ أتْقَى؟ قَالَ: الَّذي يَذْكُرُ ولَا يَنْسَى». فجَعلَ رَأسَ التَّقْوى في ذِكْرِ اللهِ، ليْسَ ذكراً باللّسَان فقَطْ، وإنَّما ذِكْرٌ باسْتِحضَار عَظَمَتهِ وعِزّتهِ وجَبَرُوتهِ في القَلْبِ. لأنَّ ذلكَ أدْعَى للخَوفِ والخَشيَةِ، وأجْلَبَ للرَّهْبَة. ومنْ ثمّ فالعبْدُ إذَا ذَكرَ اللهَ حَقَّ ذِكْرِه، أَعْقَبَهُ منْ ذَلكَ خوفُ اللهِ حَقَّ خَوْفِه، فَأوْرَثَهُ تَقوَى اللهِ حَقّ تُقَاتهِ.
وهَكذَا ترَى كيْفَ يَضعُ القُرآنُ الكريمُ الكَلمَاتِ بمِيزانٍ دَقيقٍ منَ الحِكمَة، وبَدِيع البَيَان، في مَرصُوصِ البُنْيَان: دُعاءٌ في إسْرَارٍ وخُفْيَةٍ، وذِكْرٌ في خَشْيَةٍ وخِيفَةٍ. كلّ ذلكَ في لبَاسٍ منَ التَّضرُّع والتَّذلُّل والْـمَسْكَنَةِ.
—————
د. مصطفى بوعزة