غادر أسطول مكوّن من نحو عشرين سفينة ميناء برشلونة الإسباني محمّلاً بالمساعدات الإنسانية ومتطوعين ونشطاء مؤيدين لفلسطين،
من بينهم شخصيات عامة بارزة مثل الناشطة البيئية غريتا ثونبرغ والممثل الأيرلندي ليام كانينغهام، في محاولة لفتح ممر بحري نحو قطاع غزة المحاصر منذ أكثر من 17 عاماً.
ورغم الظروف الجوية العاصفة التي أجبرته على العودة لساعات، فقد استأنف رحلته مجددًا اليوم الإثنين 1 سبتمبر 2025، في واحدة من أكبر المحاولات الدولية لكسر الحصار الإسرائيلي عبر البحر.
خلفية الحصار البحري على غزة
منذ عام 2007، فرضت إسرائيل حصاراً مشدداً على قطاع غزة عقب سيطرة حركة حماس على الحكم فيه. يشمل الحصار إغلاق المعابر البرية، والتحكم في المجال الجوي، وفرض قيود صارمة على دخول البضائع والأشخاص.
الحصار البحري بدوره يمنع أي حركة بحرية حرة للفلسطينيين، حيث لا يُسمح للصيادين إلا بمسافات محدودة لا تتجاوز في الغالب 6 – 12 ميلاً بحرياً، وهو ما يحدّ من نشاطهم الاقتصادي.
هذا الحصار، وفق منظمات حقوقية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، يمثل عقاباً جماعياً يخالف القانون الدولي الإنساني. وقد أدى إلى انهيار اقتصادي شبه كامل في غزة، حيث يعيش أكثر من مليوني شخص وسط نقص حاد في الغذاء والدواء والوقود.
أساطيل الحرية السابقة: محاولات متكررة
ليست هذه المرة الأولى التي ينطلق فيها أسطول مدني لكسر الحصار. فمنذ عام 2008، أطلقت منظمات دولية مثل تحالف أسطول الحرية والحملة الأوروبية لرفع الحصار عن غزة عدة محاولات لإيصال مساعدات عبر البحر.
أبرز تلك المحاولات كانت أسطول الحرية 2010 الذي تعرض لهجوم دموي من البحرية الإسرائيلية في المياه الدولية أثناء توجهه إلى غزة، وأسفر عن مقتل عشرة ناشطين أتراك على متن السفينة “مافي مرمرة”. هذا الحادث أثار أزمة دبلوماسية بين تركيا وإسرائيل ولفت الأنظار العالمية إلى قضية الحصار.
منذ ذلك الحين، حاولت عدة قوافل بحرية أخرى الوصول إلى غزة، لكنها غالباً ما كانت تُعترض من قبل القوات الإسرائيلية وتُجبر على التوجه إلى ميناء أشدود.
الأسطول الجديد: أهداف ورمزية
أسطول “الصمود” الذي انطلق من برشلونة يحمل أكثر من هدف:
1. إنساني: إيصال شحنات غذائية وطبية إلى قطاع غزة الذي يشهد مجاعة معلنة من قبل الأمم المتحدة، حيث يعيش أكثر من 500 ألف شخص في “ظروف كارثية”.
2. سياسي: تسليط الضوء على استمرار الحصار الإسرائيلي، ودفع الحكومات الأوروبية والدولية إلى ممارسة ضغوط على إسرائيل.
3. رمزي: التأكيد على أن التضامن الشعبي العالمي مع فلسطين لم يتراجع، بل يزداد حضوراً مع مشاركة شخصيات مثل غريتا ثونبرغ، التي تربط النضال البيئي بقضايا العدالة الإنسانية.
الطقس كعائق أولي
رغم الحماس الكبير، واجه الأسطول منذ ساعاته الأولى عائقاً غير متوقع: الظروف الجوية السيئة.
فقد سجلت وكالة الأرصاد الجوية الإسبانية AEMET عواصف تجاوزت سرعتها 55 كيلومتراً في الساعة، ما دفع المنظمين إلى العودة إلى ميناء برشلونة مؤقتاً.
المنظمون أكدوا أن القرار اتخذ لحماية المشاركين خاصة أن بعض القوارب صغيرة نسبياً، وأن “سلامة المتطوعين لا تقل أهمية عن نجاح المهمة”.
شخصيات بارزة على متن الأسطول
اللافت في هذه القافلة مشاركة شخصيات عامة معروفة على الصعيد العالمي:
غريتا ثونبرغ: الناشطة السويدية التي باتت رمزاً لحركات المناخ العالمية، والتي قالت إن “العدالة المناخية لا تنفصل عن العدالة الإنسانية”.
ليام كانينغهام: الممثل الأيرلندي المعروف بدوره في مسلسل “صراع العروش”، أكد أن مشاركته تأتي من قناعة بأن “السكوت على معاناة غزة خيانة للإنسانية”.
إدوارد فرنانديز: الممثل الإسباني الشهير الذي يرى أن “المسؤولية الأخلاقية تحتم علينا التحرك”.
آدا كولاو: رئيسة بلدية برشلونة السابقة التي اشتهرت بدعمها للقضية الفلسطينية خلال فترة ولايتها.
وجود هذه الأسماء يضفي زخماً إعلامياً على المبادرة، ويجعل من الصعب تجاهلها على الساحة الأوروبية.
ردود الفعل الإسرائيلية المحتملة
إسرائيل عادة ما تعتبر مثل هذه الأساطيل “استفزازاً سياسياً” وتصر على أنها لن تسمح لأي قارب بالوصول مباشرة إلى غزة، متذرعةً بالاعتبارات الأمنية ومنع “تهريب الأسلحة إلى حماس”.
من المتوقع أن تواجه القافلة اعتراضاً بحرياً عند اقترابها من المياه الفلسطينية، كما حدث في محاولات يونيو ويوليو 2025 حين أوقفت البحرية الإسرائيلية قوارب ناشطين وصادرت حمولتها.
لكن المنظمين يقولون إن وجود شخصيات أوروبية رفيعة ومشرعين ضمن القافلة قد يصعّب على إسرائيل اتخاذ خطوات عنيفة، خوفاً من أزمة دبلوماسية أوسع.
الموقف الأوروبي والدولي
حتى الآن، لم تعلن أي حكومة أوروبية دعمها الرسمي للأسطول، وإن كان بعض النواب الأوروبيين يشاركون فيه شخصياً.
الاتحاد الأوروبي غالباً ما يوازن بين “حق إسرائيل في الأمن” و”ضرورة تقديم المساعدات الإنسانية”، لكنه يواجه ضغوطاً شعبية متزايدة مع تواصل صور الدمار والمجاعة في غزة.
الأمم المتحدة، عبر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، أكدت مراراً أن غزة “على حافة الانهيار الكامل”، لكنها لم تصدر بياناً خاصاً بالأسطول.
مع ذلك، يرى محللون أن مجرد انطلاق القافلة من دولة أوروبية كبرى مثل إسبانيا يمثل تحدياً رمزياً للموقف الرسمي المتحفظ.
الوضع الإنساني في غزة: أرقام صادمة
عدد القتلى الفلسطينيين منذ أكتوبر 2023 تجاوز 63,000 شخص، معظمهم من المدنيين.
المجاعة: نصف مليون إنسان يعيشون في ظروف وصفتها الأمم المتحدة بأنها “كارثية”.
البنية التحتية: المستشفيات مدمرة أو متوقفة عن العمل بسبب نقص الوقود.
النازحون: أكثر من 1.7 مليون شخص نزحوا داخلياً.
هذه الأرقام تفسر إصرار النشطاء على مواصلة محاولاتهم، رغم المخاطر الأمنية والبحرية.
الإعلام والرأي العام
التغطية الإعلامية الغربية لأساطيل الحرية السابقة كانت متفاوتة، لكنها هذه المرة تبدو أكثر حضوراً بفضل وجود وجوه مشهورة وارتباط الحدث بمدن أوروبية كبرى مثل برشلونة.
من المتوقع أن يشكل هذا زخماً للرأي العام، خاصة مع تزايد المظاهرات الشعبية المؤيدة لفلسطين في العواصم الأوروبية خلال العامين الماضيين.
المخاطر والتحديات
رغم الطابع السلمي للقافلة، تواجه عدة مخاطر:
1. الاعتراض الإسرائيلي: احتمال احتجاز السفن أو ترحيل النشطاء.
2. القانون الدولي: إسرائيل تبرر إجراءاتها بالاتفاقيات البحرية، لكن خبراء يعتبرونها غير قانونية إذا تمت في المياه الدولية.
3. العوامل الطبيعية: الطقس في البحر المتوسط خلال سبتمبر قد يظل غير مستقر.
4. الانقسام السياسي: غياب موقف رسمي أوروبي موحد قد يضعف الضغوط على إسرائيل.
التوقعات المستقبلية
نجاح الوصول: إذا تمكنت بعض القوارب من الاقتراب من غزة، فسيكون لذلك أثر رمزي ضخم وربما يدفع الأمم المتحدة لبحث إنشاء ممر بحري إنساني.
الاعتراض الإسرائيلي: المرجح أن تمنع البحرية الإسرائيلية الأسطول، لكن هذا قد يزيد من الضغوط الدولية عليها ويعيد قضية الحصار إلى طاولة المفاوضات.
الزخم الشعبي: بغض النظر عن النتيجة، سيعزز الحدث حركة التضامن العالمي مع فلسطين، وربما يفتح الباب أمام مبادرات جديدة مماثلة من موانئ أوروبية أخرى.
أسطول المساعدات المنطلق من برشلونة نحو غزة ليس مجرد مبادرة إنسانية، بل هو رسالة سياسية وأخلاقية تعكس حجم الغضب الشعبي العالمي من استمرار الحرب والحصار.
ورغم إدراك المنظمين لاحتمال فشلهم في الوصول، فإنهم يراهنون على قوة الرمزية وعلى كسر جدار الصمت الدولي.
في النهاية، سواء وصل الأسطول إلى غزة أو أُجبر على التوقف، فإنه قد نجح بالفعل في إعادة تسليط الضوء على واحدة من أطول وأقسى الأزمات الإنسانية في العالم المعاصر.
