“أغصانٌ جافةٌ”.. قصةٌ قصيرةٌ لـ محمّد الشرقاوي

شهر رمضان

دقائقُ قليلةٌ تفصلُ المصلينَ عن ختامِ صلاةِ التراويحِ في الليلةِ الثانيةِ من ليالي الشهرِ الكريمِ، جرعةٌ إيمانيةٌ مركزةٌ تسلكُ طريقَها لتستقرَ في القلوبِ ساعدَ في وصولِها ذلك الصوتُ الملائكيُ لذلك الإمامِ ذي الملامحِ المشرقةِ، والابتسامةِ الصافيةِ المستقرةِ على وجهِهِ الناضرِ. أسبابٌ عديدةٌ يضافُ إليها تلك الأضواءُ الخافتةُ مما يعيدُ الهدوءَ والطمأنينةَ إلى النفسِ الحائرةِ، فتنطلقُ في دروبِ النورِ تقهرُ العوائقَ، وتعبرُ الأسوارَ قاصدةً اليقينَ النفسيَ، والرضا والسلامَ الداخليَ، والتسليمَ بما قدرَ اللهُ تعالى، فكم كان الشوقُ يغمرُ القلوبَ لتشهدَ تلك الأيامَ المباركةَ التي تبدو كنهرٍ فياضٍ يستعينُ بهِ الإنسانُ في التخلصِ من أدرانِ النفسِ التي تراكمت عبرَ أحدَ عشرَ شهرًا.

ضجيجٌ متواصلٌ يندفعُ من الخارجِ، ويقتحمُ الأجواءَ الإيمانيةَ فيخطفُ جانبًا من تركيزِ وخشوعِ المصلينَ، وخاصةً تلك الصفوف القريبة من البابِ، أصواتٌ لبعضِ الشبابِ يؤكدونَ سرعةَ جمعِ المبلغِ المناسبِ للمهمةِ اللازمةِ، تتسارعُ دقاتُ قلوبِ المصلينَ في لهفةٍ شديدةٍ لسماعِ تسليمِ الإمامِ والذي عانقَ آذانَهم بعد مرورِ دقيقتينِ، يهرولُ الجميعُ نحو أحذيتِهم، وعلى ألسنتِهم سؤالٌ واحدٌ: ماذا حدثَ في الشارعِ؟ وما تفسيرُ الحوارِ الذي اقتحمَ علينا المسجدَ وسرقَ منا خشوعَنا، يبدو حدوثُ أمرٍ عظيمٍ، يشير أحدُهم قائلاً: هذا هو الشابُ الذي سمعنا صوتَهُ، فهيَّا كي نسألَهُ عما حدثَ.

يتجهُ جمعٌ من الرجالِ نحو ماهرٍ، هذا الشاب المعروف في المنطقةِ، والذي يقفُ على مسافةٍ لا تتجاوزُ عشرةَ أمتارٍ، وقد أحاطَه عددٌ من الشباب الذين يقدمونَ له مبالغَ مِن فئةِ العشرةِ والعشرينَ جنيهًا. استفساراتٌ متبادلةٌ بين الحاجِ عادلٍ وصديقِه الأستاذِ كريمٍ، بينما هما يهرولانِ نحو الزحامِ: هل سيجمعون أموالًا للفقراءِ والمساكينِ والأيتامِ من أهلِ المنطقةِ؟ هل سيجمعونَ الطعامَ لأهلِ غزةَ لتخفيفِ محنتِهم؟ هل سيقيمونَ موائدَ إفطارٍ لغيرِ القادرينَ؟ هل حدثتْ ظروفٌ طارئةٌ عند أحدِ سكانِ الشارعِ كانت تلك نماذجٌ من الأسئلةِ التي تدورُ في الأذهانِ باحثةً عن إجاباتٍ شافيةٍ، كم هي نبيلةٌ تلك الأفعالُ والمبادراتُ!.. لا بُدّ أنْ نشجعَها ونساندَها بكلِّ قوةٍ، يطلبُ الحاجُ عادلٌ مِن صديقِهِ عدمَ التعجلِ لحينِ التحققِ من الأمرِ.

يصلُ الرجلانِ، ولا يعبأُ بهما الشبابُ، يسألانِ عما حدث، لا أحدَ يجيبُ، نريدُ المشاركةَ معكم فهل تخبرونَنا؟ تظلُّ الإجاباتُ حبيسةً لدى ماهرٍ وأصدقائهِ، تزدادُ دهشةُ الرجلينِ، وتزدادُ كذلك رغبتُهما في إدراكِ حقيقةِ ما يحدثُ، وهنا يأتي صوتٌ جهوريٌ من المعلمِ عزامٍ -أحدِ أصحابِ المحالِ التجاريةِ- مستدعيًا الرجلينِ، يمضيانِ نحوهُ مسرعَيْنِ، تندفعُ الأيادي للمصافحةِ، ويسبقُها السؤالُ المهمُ: ماذا يحدثُ!؟ وهنا يشيرُ لهما هذا التاجرُ بأنَّ الأمرَ لا يدعو إلى الاهتمامِ، لكنْ أمام رغبتِهما الملحةِ يفسرُ كلامَهُ قائلًا: إنَّ هؤلاءِ الشبابَ يجمعونَ الأموالَ لشراءِ المفرقعات والألعابِ الناريةِ المختلفةِ لكي يُرموها في وجوهِ شبابِ الشارعِ المقابلِ ردًّا على ما حدثَ الليلةَ الماضيةَ، لقد بذلتُ أقصى ما في وسعي لكنني فشلتُ في إقناعِ كلا الفريقينِ بعدمِ إباحةِ تلك الأفعالِ، بينما ظلَّ المارةُ وأصحابُ المحلاتِ في صمتٍ مميتٍ.

تتعانقُ نظراتُ الحاجِ عادلٍ مع نظراتِ صديقِهِ، الصدمةُ ترسمُ على الوجهينِ ملامحَ الحزنِ والألمِ، الكلماتُ محبوسةٌ خلفَ الشفتينِ، تختفي مشاعرُ الخشوعِ والسكينةِ لتحلَّ مشاعرُ القلقِ والإحباطِ، ينصرفانِ على تلك الحالِ، لا يلتفتانِ إلى أحدٍ، ولا يعبآنِ بمَن يمر بجوارِهم، وبعد لحظاتٍ يهربُ الصمتُ عندما تتسارعُ تلك الأسئلةُ المتبادلةُ دون إجاباتٍ: هل هؤلاءِ هم بالفعلِ شبابُ الغدِ وحماةُ الأوطانِ!؟ كيفَ صرنا إلى هذا الوضعِ!؟ من المستفيدُ مِن ذلك!؟ ما واجبُ العقلاءِ والمفكرينَ!؟ وكيف سيكونُ الحالُ إنْ استمرَّ هذا الصمتُ!؟ يفترقانِ عند بابِ منزلِ الحاجِ عادلٍ، ولكن تظلُّ مشاعرُ الألمِ والحسرةِ تجمعُ بينهما على وعدٍ بالبحثِ عما يستطيعانِ من الحلولِ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights