الأحد يوليو 7, 2024
بحوث ودراسات

مضر أبو الهيجاء يكتب:

 أمريكا الشيطان الأكبر من معركة إتلاف غزة الصغرى إلى محرقة الأمة الكبرى

تمهيد

منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى المشرفة في يوم 7 أكتوبر وخلال الأيام الثلاثة الأولى كتبت عدة مقالات أعلن فيها عن موقفي المطلق في وجوب الوقوف خلف المجاهدين واسنادهم، لاسيّما والبوصلة صحيحة والعنوان الكبير هو جهاد مقدّس في مواجهة عدوّ للدين وهو محتلّ زنيم .

وما أن أشرت الى خطورة ايران ومشروعها السياسي على مسار القضية الفلسطينية، وضرورة التوقّف أمام حقيقة تغلغل ايران في المسار الفلسطيني بحيث باتت متربّعة على عرش المقاومة للحدّ الذي لا يمكن لأحد تجاوزها بسبب عمق الارتباط بها في جوانب عدة، وما أن أشرت الى الخطورة والنهايات المأساوية في حال التعويل عليها والبناء على أوهامها، بحيث لا نجني نحن المغارم المروعة وتجني ايران بدمائنا الزكية المغانم، وما أن أشرت الى ضرورة فكّ العلاقة معها حماية لمعركة طوفان الأقصى ومنعها من الانحراف وهدر الدماء بلا نتائج سياسية في صالح قضيتنا وشعبنا وأمتنا … حتى وجدت كمّا من الردود والمراسلات والكتابة من اخوة طيبين طاهرين -وبعضهم أصدقاء حميمين- تدين ما كتبته الى حدّ الهجوم والتخوينمن بعض من أحبّهم وأثق بدينهم وأخلاقهم !

وما أن أشرت لضرورة القراءة العميقة للمشروع الأمريكي باعتبار أن أمريكا حلّت في المنطقة بجحافلها العسكرية في أول ساعة من ساعات المعركة جالبة معها بريطانيا وجحافلها، متهما اياها بأنها تستهدف التموضع المتقدم والكبير في منطقتنا من خلال النافذة الفلسطينية لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة ودولها وجماعاتها وفق تصورّ جديد وبشكل مباشر … حتى وجدت بعض الشخصيات السلفية المحترمة والرائجة تردّ على ما كتبته وتدعو الناس لعدم الالتفات ولا الاستماع لمن يقول أن أمريكا ستنفذ من خلال واقعة المعركة بهدف اعادة ترتيب المنطقة وفق تصورها الجديد!

وما أن أشرت -بعد تأييدي الواضح من البداية حتى النهاية للمكوّن والسلوك الجهادي- الى ضرورة أن يتّسم العمل الجهادي بالحكمة والرشد والمسؤولية، لتكون الدماء الزكية ذات نتائج تراكميّة في مسيرة البناء وتحقيق أهداف الأمة … حتى أشار البعض بكلام مسيئ وغير مسؤول، بل وفيه استخفاف بحجم دماء المدنيين من النساء والأطفال واعتبار ذلك جزء طبيعي ولازم في مسيرة الجهاد والتضحية دون تحديد سقف له وبلا مسؤولية شرعية وأخلاقية  !

الاستنتاج الموجع

تثبت أمتنا الموحّدة في كل واقعة من وقائعها أنها أمة ترتبط بالدين وتنطلق من انحيازها لمفهوم الأمة وقضاياها، وتعبّر عن عاطفتها الجيّاشة والصادقة في المساجد والشوارع وحتى الملاعب بشكل عفوي سويّ ونزيه دون تفكير عميق، الأمر الذي يثبت أن سويّتها وأصالة انتمائها أكبر من مقولات وتوصيفات ضياعها وتلفها المغرضة، كما ويشير الى عاطفة جياشة تتقدم على العقل، وهي صفة عامة في الشعوب، لكن من غير المقبول ولا المعقول أن غياب هذا العمق في النّظر والتدبّر يتجاوز العوامّ ليصيب كثير من النّخب الاسلامية والقيادات السياسية والثورية العاملة!

ولعلّ خصوصية القضية الفلسطينية التي تميّزها ثلاث مسائل هي (وجود الأقصى المبارك – قتال المحتلّ الصهيوني – استمرار مظلومية الشعب الفلسطيني وتضحياته منذ قرن) تتسبب في تقدّم العاطفة –الواجبة- على العقل الناضج والمستوعب!

والسؤال المطروح اليوم، هل معركة طوفان الأقصى المشرّفة هي المعركة الأولى في فلسطين؟ وهل تضحياتها العظيمة والمذهلة هي التضحيات الأولى في أمة العرب والمسلمين؟

ان مقصود السؤال ليس الجواب البديهيّ، ففلسطين لم تغب معاركها منذ أن احتلّها الانجليز واستوطنها اليهود الغاصبين، وشواهد البطولة والفداء تملأ تاريخها المجيد، كما أن تضحياتها المبهرة ليست الأولى والوحيدة في أمة العرب والمسلمين، فالربيع العربي في تونس وفي رابعة مصر وليبيا واليمن والعراق وعلى وجه الخصوص في الشام قد ظهرت فيه نماذج ومواقف وبطولات وفداء لا يمكن التعبير تجاهه عن الذهول والفخر والاعتزازالا بكلمة الله أكبر التي تعبّر عن كل شيء، ولعلّ آخر البطولات كانت للجندي المصري محمد صلاح الذي جاهد فأبدع واستشهد ولم يودّع أحدا من أهله.

ان مقصود السؤال هو النّظر الى كل تلك التضحيات العظيمة والدماء الزكية التي سالت كالأنهار في معارك واجبة ومشرّفة، ولكنّها لم تحصد نتائج في مستوى الدماء والتضحيات، بل ورّثت قروحا وجروحا وأوجاعا وأنينا يسمع في سجون مصر والعراق واليمن والشام والحجاز ونجد.

المدخل

1- أن العمل كما هو واجب لتحرير فلسطين من اليهود الغاصبين المحتلين من خلال الأعمال الجهادية الواجبة، فان ازالة الحكام والطواغيت وكلاء الغرب أيضا واجب ولازم لذاته وشرط لتحرير فلسطين.

2- أن التعويل على شعوب العرب والمسلمين أمر لا يضعفه خذلان الدول وتواطؤ حكامها ونذالة جيوشها، بل هو سبب للتفاعل معها في قضاياها واعتبارها، لا تجاوزها من خلال مواقف وأحلاف سياسية آثمة ومنكرة!

3- أن فهم مشاريع الغرب، وعلى وجه الخصوص المشروع الصهيوني الغربي الذي تقوده وتبلور خطواته واتجاهاته الرئيسية في الحقبة الحالية أمريكا، هو فهم واجب يغيّر شكل وايقاع وسقف المعارك الواجبة، وهو شرط لتحقيق النتائج وقطف الثمرات وتقليل المغارم ونزيف دماء الشعوب والمدنيين، الذين باتوا مادة تهرق في كل اتجاه دون حساب!

4- أن فلسطين لم ولن تتحرّر من داخلها كما هي في كل التاريخ، وانما تتحرر فلسطين من خارجها وعبر أمتها، الأمر الذي يضبط سقف معاركها وسلوكها الجهادي الواجب لتحقيق هدفين على الدوام، أولهما التصدي للعدوّ والحيلولة دون توسّعه وتغلغله السرطاني سواء في فلسطين أو خارجها، وثانيهما تحريض الأمة على القتال حتى تأخذ دورها الواجب في تحرير أقصى المسلمين وأمانة الدين.

5- أن تصحيح أوضاع الأمة لاسيما في محيط فلسطين أمر يجب التفاعل معه والبذل فيه والصبر عليه حتى يتعافى الجسد الكبير، وبقدر تعافيه مرحليّا بقدر ما تميل كفّة الميزان في صالح القضية الفلسطينية بشكل تراكمي، والعكس بالعكس.

6- أن كل المواقف والأحلاف السياسية مع المشاريع المعادية للأمة وشعوبها ستحدث فجوة تنقص من رصيد تفاعل الأمة بشكله العملي والمؤثر، بل ستضعف دور الأمة حتى تنتهي الأطراف الفلسطينية الى الارتهان الكامل للحلف المعادي، وهي نتيجة طبيعية لتنكرها لقضايا الأمة والمظالم الواقعة عليها ولحلفها مع المشاريع التي تنال من دماء الأمة وتبدد استقرار شعوبها!

7- أن البعد الأخلاقي في التعامل مع القضية الفلسطينية لا يجوز أن يحضر تجاهها، فيما يغيب تماما في التعامل مع جلّ القضايا العربية والاسلامية المحيطة، وللدرجة التي لا يظهر فيها الا في المقال بينما ينقضه تماما في واقع الحال، واذا كانت الظروف الموضوعية لا تسمح في التعبير عن الواجب ولا اتخاذ الموقف اللازم، فان هذا لا يجيز الترويج للباطل ولا اتخاذ خطوة تنقض الخلق الصائب!

8- أن الربط الدائم للنبوءات –بغض النّظر عن صحة سندها ومتنها أو تواترها- بحقبة معيّنة وتاريخ محدد مسألة غير صائبة، بل هي سبب في اضعاف النّظر للمهالك، وسبب في تراجع حجم العمل الواجب في عالم الشهادة، بعيدا عن ايماننا المطلق بعالم الغيب والذي يجب أن نبني عليه يقينا يورث قوة وأملا يورث دوام العزيمة، وليس ربطا مخلّا مقامرا بين أيامنا وأعمالنا الحالية وتحقق النبوءة اللازمة!

9- أن غياب المراجعة للتجارب –على الأقل المعاصرة- سبب يدفع لتكرار الأخطاء الموجعة، وان تكميم الأفواه وارهاب العقلاء عن طرح الأسئلة الكبيرة من خلال استحضار مفهومي موالاة الأعداء والنفاق، سبب يعمي البصر عن النظر والبحث في الأخطاء، وأدنى نتائجه الوقوع في خلاف الأولى وترك الأوجب!

10- أن التعامل مع التنظيمات والأحزاب والفصائل والجماعات الجهادية كأنها من أصول الدين أو فروع الاعتقاد، يدفع للخلط بين النظر في المواقف وأصل النظر والايمان نحو القضية !

 

معركة طوفان الأقصى

لاشكّ بأنها معركة مشرّفة، رفعت معنويات شعوب الأمة المحبطة لاسيما بعد حالة الجزر في ثورات الربيع العربي كنتيجة للثورات المضادة، كما أنها أعادت رسم صورة المحتل الاسرائيلي وبينت حجمه الحقيقي والهش، وهي ثمرة ونتيجة لبطولات المجاهدين التي أذهلت الجميع وذلك فضل من الله.

ومن نافلة القول أن هناك مائة سبب لقيام معركة ومعارك بيننا وبين المحتلين الذين أسرفوا في القتل في مدن الضفة، كما تغولوا بشكل كبير في الأقصى، كما تجاوزا كلّ الحدود في حصار قطاع غزة وفي تقييد الضفة.

الا أن رفع سقف المعركة الى أعلى درجة واستنفاد كل الرصيد الشعبي والقتالي في ظلّ انعدام التكافؤ، وفي ظلّ أوضاع المنطقة الخاطئة والمهترئة، والاعتماد على المحور الايراني والتعويل على دوره المتوهم –الذي ان اختلف مع أمريكا واسرائيل في قضية ومسألة فانه يلتقي معهما في عشر مسائل غيرها- يثير تساؤلات كبرى حول الرواية الكاملة للمعركة والملابسات السياسية الأضخم من فلسطين ومن غزة !

التهجير الثالثفي غزة والضفة بين نموذجي غوطة دمشق وحلب الثورة

وقعت المعركة ونزل المجاهدون في ساحات الوغى فوجب النفير العام والدعم والاسناد على كل من في قلبه ذرة من إيمان، في معركة طرفيها مسلم مقهور في وجه عدو كافر معتد ومحتلّ لأرض عربية إسلامية مباركة.

لقد أثخن المجاهدون الأبرار في العدو الغاصب وفرح المؤمنون بهذا النصر الجزئي، وذلك في اليوم الأول، ثم أثخن العدوّ بنا قتلا وتدميرا وتشريدا منذ ثلاثين يوما وحتى كتابة هذا المقال، معبرا عن شهوة القتل المتوحش للأطفال والنساء والعجّز في البيوت والمساجد والمستشفيات بشكل متعمّد، وبغطاء غربي يشبه الى حدّ كبير ضرب الكيماوي وقتل الأطفال في غوطة دمشق على يد سفاح الشام بعد أن أخذ ضمانات غربية من خلال الروس.

لقد كانت عملية القتل الفظيع للأطفال في غوطة دمشق بالكيماوي عام 2013 توطئة للتهجير القسري لشعب الغوطة عام 2018، لاسيما أن النظام النصيري وبعد انتهائها وتجاوز الغرب عنها–الا من بعض تصريحات أمريكية وغربية منافقة كالتي تجري الان تجاه غزة-، فرض وقائع جديدة ويومية في كل مناحي الحياة والمجتمع بالشكل الذي رسم به النهاية المرسومة للتهجير المطلوب والمستهدف.

ان ما يجري من عنف مقصود في غزة من قتل الأطفال والنساء وتدمير المستشفيات والمدارس ومراكز الايواء للاجئين، كما أن ما يجري بنفس الوقت من تسليح للمستوطنين بشكل عالي الوتيرة في محيط كل مدن الضفة، اضافة للقتل الواسع واستخدام الطيران في قصف مخيمات صغيرة كمخيم جنين ومخيم نور شمس، ان كل ذلك يشير الى التهجير الثالث والذي يحاول أن يستفيد من جوّ المعارك القائمة وتفاهمات سياسية تحت الطاولة، وهو ما حصل في حلب التي تزن لوحدها دولة.

خسارة كبرى ومنعرج فظيع ان تحقق التهجير ولو بشكل جزئي تراكمي مباشر ومتوسط وبعيد، فهذا سيفضي الى تراجع حقيقي ومريع ليس في صالح القضية، وهو المنعرج الذي أضعف الثورة السورية بعد سقوط الغوطة وحلب وتهجير ثوارها.

ان بقاء العنصر البشري– بمدنيّيه ومجاهديه- في كامل الأراضي الفلسطينية، سواء غزة او الضفة أو أراضي 48 هو أكبر ضمانة لبقاء القضية حيوية وعدم مصادرة الأقصى المبارك، وهو هدف استراتيجي يجب العمل على تحقيقه وتوفير مقومات بقاء الناس في المدن والبلدات في كامل فلسطين التاريخية وليس محصورا بغزة .

 

أمريكا الشيطان الأكبر الذي يحضر بجنده ويحلّ في المنطقة من جديد

من نافلة القول أن اسرائيل لا تحكم من داخلها بالمعنى العميق والذي يرسم دورها ويضبط ايقاعها في المنطقة الشرق أوسطية، واذا كانت اسرائيل فيما سبق تملك هامشا واسعا في تصرفاتها وقراراتها فإنها اليوم وبعد الحلول الأمريكي وقيادته للمعركة في جوانبها الرئيسية والتفصيليةستخضع للرؤية الأمريكية والأوامر اليومية التي تجعل الحليم حيران من شدّة دهائها وتقلبات تصريحاتها وأبعاد مكرها وحجم قدراتها وخبراتها العميقة في صناعة أحداث أو جرّ الخصم لافتعالها أو قدرتها في التعامل مع المتغيرات والوقائع بالشكل الذي يفضي دوما لتحقيق خطوات تراكمية باتجاه أهدافها.

لقد حضرت أمريكا على وجه السرعة،جالبة معها أساطيلها وناقلاتها وطائراتها وغواصاتها، وأحضرت معها بريطانيا وقوتها، كلّ ذلك في يوم وليلة وقبل أن تنطفئ نيران غزة أو تل أبيب! وهو أمر يثير التساؤل حول تلك الجاهزية الأمريكية والقرارات السريعة وكأنها مبلورة وجاهزة، أو كانت تنتظر الفرصة وترقبها من بعيد!

نعم لقد استفادت أمريكا من المعركة وحقّقت تواجدا وتموضعا عسكريا عاليا لها ولحليفتها بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط وما خفي أعظم.

 

أمريكا بين معركة غزة الصغرى ومحرقة الأمة الكبرى

لاشكّ بأن الحضور العسكري الأمريكي البريطاني الوازن يتجاوز استحقاقات معركة طوفان الأقصى وهو أكبر من قطاع غزة والأهداف المعلنة!

وكنت قد كتبت مقالا –في مجلة البينات الكريمة- قبل شهرين تقريبا تحت عنوان سورية الثانية بين البناء والهدم وتحديات المرحلة، حيث أشير في المقال الى أن أمريكا ستحضر الى المنطقة وتعيد صياغتها، كما تعيد بناء سورية الثانية وفق تصوراتها وأهدافها.

واليوم وبعد معركة طوفان الأقصى، أو بالأحرى بعد الحضور والتموضع الأمريكي العسكري وبعد التفرّد السياسي بقيادة المشهد في فلسطين، واخضاع الاسرائيليين للرؤية الأمريكية في التعامل اليومي مدا وجزرا، وكذلك استخدامها لقطر كأرض سويسرية بين العرب، يمكنني القول أن أمريكا ستعيد صياغة فلسطين المحتلّة وأطرافها وفق تصورها لعموم المنطقة، بما في ذلك اعادة بلورة أدق للشكل والدور الاسرائيلي والشكل والدور الايراني، الأمر الذي قد يستلزم قرصة أذن للأولى وضربة موجعة غير قاتلة للثانية وأذرعها المفيدة في المنطقة، ولا تستغرب اذا سمعت أن الحوثيين المقاومين سيستقبلون مجاهدي ومقاتلي غزة في صنعاء التي يحتلونها!

ان مساحة لبنان وسوريا لن تكون بمعزل عن الترتيبات الأمريكية والتوترات القادمة وما قد يعتريها من أعمال تجرّ أهوال، فأمريكا التي حضرت وتموضعت في منطقتنا لن تألوا جهدا في صناعة أحداث وافتعالها من خلال الأطراف المتصارعة والعوامل المتناقضة المتوفرة بقوة في كلا البلدين، حتى تصل الى صناعة وقائع تعيد رسم أوضاع المنطقة ضمن رؤيتها الشيطانية للإحاطة الكليّة بالشرق الأوسط ومقدراته، وعدم ترك ثغرة قد ينفذ من خلالها المنافسون لها، ولن تترك ثغرة قد تسمح بتشكّل أحلاف معتبرة خارج نفوذها وإرادتها ومصالحها.

أمريكا ذلك الشيطان الأكبر، والذي يجيد لعب دور بابا نويل تارة، فيما يكشر عن أنيابه تارة أخرى وينقض على فريسته ويخترق بطنها وهو حية تنظر الى احشائها وهي تمزّق وتؤكل بلا رحمة.

ان أمريكا قد حضرت الى المنطقة لا لتنفق ملياراتها لتحقق السلام بين الشعوب أو لتحول دون التوترات وتمنع الاحتكاكات، بل لتعيد رسم الأمور وضبط أدوار مشاريعها الفاعلة واتمام السيطرة على المنطقة، لاسيما بعد الخلخلة التي أحدثتها ثورات الربيع العربي والمناطق الرخوة التي أوجدتها.

واذا كانت أمريكا متساهلة في استبدال حكام المنطقة ووكلائها في سدة الحكم في الدول العربية وعلى وجه الخصوص في مصر والأردن والخليج العربي، فإنها لن تتنازل عن ركيزتين أساسيتين تضمنان عدم خروج شعوب المنطقة وحركاتها عن سيطرتها السياسية، وهما اسرائيل وايران، لاسيّما بعد دورهما الفاعل في افشال ثورات الربيع العربي وحرق وقتل ثواره وتشريد شعوبه وقلب أنظمة الحكم فيه.

ان استمرار الايقاع الأمريكي بالشكل السلس والسريع الذي ولج فيه للمنطقة وتموضع بشكله العسكري الثقيل يتيح له أن يغيّر شكل الدول القائمة وتفتيتها مستفيدا من ركيزتي اسرائيل وعموم الطوائف المنتشرة، لاسيما بعد التغيير الجيوسياسي الذي تجسد فيها واقعا بعد ثورات الربيع العربي نتيجة شرور ووحشية وبطش جيوش وحكام المنطقة، يضاف عليه نقاط التفجّر الجاهزة اثنيا أو عرقيا أو مذهبيا أو مائيّا.. الخ.

فلسطين وغزة هي المعركة الصغرى التي تديرها أمريكا بأيدي اسرائيلية، وهي نافذة لإعادة صياغة المنطقة وفق تصور جديد يستفيد من كل عناصر التفجير المتوفرة في مصر والخليج والأردن واليمن ودول الشام وذلك بالتعاون والاستخدام الواعي لكل من إسرائيل وإيران.

الواجب لمواجهة الهجمة الأمريكية المتقدمة في فلسطين وعموم المنطقة

وقعت المعركة باختيارنا الكامل أو تم استدراجنا اليها من خلال ايران أو حتى فرضت علينا، فلا فرق في وجوب التعامل معها اليوم ابتداء من حيث وجوب نصرتها وتثبيت ومؤازرة ودعم جندها ومجاهديها، ثم الحيلولة دون تحقيق التهجير من خلال صمود شعبنا الفلسطيني في غزة والضفة والقدس وال 48 فجميعها الآن مستهدفة، الأمر الذي يستدعي توفير كل عناصر  وعوامل الثبات، واستبعاد كل عناصر وعوامل التهجير، وهو ما يوجب قراءة ومقاربة سياسية شجاعة وجريئة غير معزولة عن الأعمال القتالية لتحقق التوازن بين الأمرين.

وصحيح أن مجاهدينا قد ساؤوا وجوه العدوّ وأسقطوا صورة الجيش الذي لا يقهر للأبد، ولكن العدوّ قد أثخن فينا قتلا وتدميرا خلال شهر بما يوازي عقود طويلة، ومن هنا فان عنصر الوقت ليس في صالحنا حيث يتناقص رصيدنا كل يوم عن شهر بل عن سنة.

ان ترجيح الكفّة الفلسطينية بالقدر الذي يخرج فلسطين واقفة على قدمين بعد المعركة هدف كبير وعزيز، وذلك في ظل اصرار أمريكي وأوروبي وتأييد ياباني وكندي وهندي، وفي ظل خيانة ايرانية موجعة، وفي ظلّ تواطئ عربي رسمي كبير، لأجل تدمير الكيان الفلسطيني وتحطيم عموده الفقري.

ولا يمكن -بحسب قراءتي واجتهادي- ترجيح الكفّة الا من الخارج الفلسطيني وليس الداخل –رغم وجوب دوره في المشاغلة كما يحث الآن في جنين وعموم الضفة- المحاصر ومحدود القدرات والهوامش، لاسيما أنه في أي مواجهة عالية المستوى الآن خاسر باعتبار التأييد الدولي لسعار القتل الصهيوني الذي تعلوه شهوة القتل ورغبة الاجتثاث، أضف عليه مستوى التسليح الجديد الذي شمل كل المستوطنين وبأسلحة جديدة وبتشجيع حكومي على القتل لم يبق عقوبة ولا مساءلة لمن يقتل فلسطينيا في أي مطرح ولأي سبب!

لكنّ أمريكا ليست الها ولا حقيقة كونية ثابتة، بل هي مشروع يصيب ويخيب، يخسر كما يربح، يخفق كما ينجح، وان التعويل –بعد الله سبحانه وتعالى- على الشعوب العربية والاسلامية هو واجب الوقت الذي يجب أن يذهب باتجاهين متوازيين لتغيير الموازين:

أولا: تشكيل اطار شعبي عربي اسلامي يؤطر الجهود وينظمها ويطورها في معركة بدأت الآن في غزة ولن تنتهي قريبا ولن تتوقف عند حدود فلسطين، ويمكن لهذا الاطار بشكل مباشر أن يوجه الشعوب باتجاه السفارات الصهيونية والأمريكية والغربية المؤيدة ليحاصرها ويضغط عليها ويؤثر في قراراتها، ثم ينتقل خطوة تلو خطوة في تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة حتى يردعها أو على الأقل يقلل شرورها.

ثانيا: إطلاق الموجة الثانية لثورات الربيع العربي مستفيدين من سياق وتداعيات معركة طوفان الأقصى المشرفة، والتصادم مع الأنظمة المتواطئة وجيوشها المتخاذلة عن نصرة فلسطين وشعبها وأقصى المسلمين، الأمر الذي لا تطيقه أمريكا لاسيما في دول الطوق الحامية لإسرائيل.

أما ما يجب فعله للحيلولة دون العبث الأمريكي القادم بدول المنطقة وشعوبها فهو تشكيل مشروع عربي غير قطري ولا حكومي، بحيث يجمع بين النخب الثورية النظيفة والقيادات السياسية الصادقة -وغير المرتهنة- والحركات الشعبية غير المتعصبة حزبيا، ويحدد أهدافه السياسية في عموم المنطقة، ويضع برامجه التي يجب أن تصطبغ بها الجماهير الواعية والقادرة بإذن الله على احباط أي مشروع أمريكي كما حصل في مشاريع سابقة، أما ان بقي الحراك الشعبي عاطفي وغير منظم، وفي ظل غياب مشروع عربي سوي في المنطقة فان القادم أعظم بكثير من أهوال غزة.

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾. سورة النور الآية 55

ما قلته من حق فمن الله وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله

مضر أبوالهيجاء فلسطين- جنين 10-11-2023

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب