في تطور لافت يعكس تغييرًا محسوبًا في مسار التوتر التكنولوجي بين واشنطن وبكين، أعلنت الولايات المتحدة عن إلغاء بعض القيود المفروضة على تصدير برمجيات معينة إلى الصين، ضمن إطار تفاهم تجاري يُعاد تشكيله بين الجانبين بعد سنوات من النزاع والرسوم المتبادلة.
القرار يأتي كإشارة أولية إلى وجود نية لتخفيف حدة المواجهة الاقتصادية، لكنه في الوقت نفسه يطرح تساؤلات عديدة حول مدى الاستعداد الأميركي لتقديم تنازلات في ملف تعتبره استراتيجيًا، وهو ملف التكنولوجيا المتقدمة.
خلفية: من تصعيد الرسوم إلى ساحة البرمجيات
منذ عام 2018، دخلت العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة مرحلة من التوتر المتصاعد، حين فرضت واشنطن رسومًا جمركية على سلع صينية تتجاوز قيمتها 360 مليار دولار، متهمة بكين بسرقة الملكية الفكرية وفرض قيود على الشركات الأميركية. وردت بكين بإجراءات مماثلة، وشهد العالم أكبر مواجهة تجارية بين قوتين اقتصاديتين في العصر الحديث.
وفي مرحلة لاحقة، وسعت الولايات المتحدة إجراءاتها لتشمل قيودًا على تصدير البرمجيات، لا سيما المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وتطبيقات الأمن السيبراني، والتشفير، والتعلم العميق. كما تم إدراج شركات صينية بارزة، مثل “هواوي” و”بايت دانس” و”سنس تايم”، في قوائم الحظر الأميركي.
القرار الجديد: تطمينات تجارية واحتياطات أمنية
البرمجيات التي تم رفع القيود عنها، وفقاً لبيان داخلي من وزارة التجارة الأميركية، تندرج ضمن البرمجيات المدنية أو العامة الاستخدام، التي لا تنطوي على مخاطر أمن قومي مباشرة، مما يشير إلى أن القرار لا يمثل تنازلاً جذريًا بل خطوة محسوبة ضمن نطاق محدود.
وفي هذا السياق، قال جيمس تشانغ، كبير محللي التكنولوجيا في مجموعة “أوراسيا غروب”، إن “الإدارة الأميركية ترسل إشارة مزدوجة: استعداد لتخفيف التوترات في بعض الملفات، دون المساس بخطوطها الحمراء في الأمن القومي”. وأضاف: “القرار له بُعد اقتصادي واضح، ويستهدف دعم شركات البرمجيات الأميركية التي تضررت من فقدانها للسوق الصينية”.
الصين: ترحيب حذر ومطالب بالتوسع
في المقابل، رحبت وزارة التجارة الصينية بالقرار الأميركي، واعتبرته “خطوة في الاتجاه الصحيح”، لكنها دعت إلى رفع شامل للقيود التكنولوجية، ووصفت الحظر المفروض على الشركات الصينية بـ”التمييز التجاري غير المبرر”.
وقالت تشينغ ليانغ، أستاذة الاقتصاد بجامعة بكين، إن “السوق الصينية تمثل بيئة اختبار ضخمة لشركات البرمجيات العالمية، وأي تخفيف في القيود سيعود بالنفع على الطرفين، لكن بكين لن تقبل بتنازلات محدودة مقابل مطالب كبرى”.
المجتمع التقني الأميركي: بين الترحيب والقلق
في وادي السيليكون، قوبل القرار بترحيب من بعض شركات تطوير البرمجيات الناشئة، خاصة تلك التي تركز على التطبيقات الصناعية والتعليمية والمالية. وقال جوش سميث، المدير التنفيذي لشركة تطوير برمجيات متوسطة الحجم في كاليفورنيا: “السوق الصينية ضخمة، والحظر الشامل ألحق ضررًا كبيرًا بالشركات غير المرتبطة بمجالات حساسة، لذلك نرى القرار خطوة إيجابية”.
لكن في الوقت نفسه، أعربت جهات في وزارة الدفاع الأميركية عن تحفظات من إمكانية “تسلل” بعض البرمجيات عبر التعاون المدني إلى الاستخدامات العسكرية في الصين، محذّرة من “الثغرات التقنية” التي يمكن أن يستغلها الجانب الصيني.
نظرة مستقبلية: هدنة مؤقتة أم بداية لعصر جديد؟
يرى بعض المحللين أن الخطوة الأميركية ليست سوى جزء من إعادة تموضع تكتيكي في سياق اقتصادي دولي متقلب، لا سيما مع تصاعد التوترات العالمية والحاجة لتأمين سلاسل التوريد والاستقرار التجاري. فيما يرى آخرون أنها بداية لانفراجة تدريجية في العلاقات الأميركية الصينية، يمكن أن تمتد إلى مجالات أوسع مثل التعاون في الذكاء الاصطناعي وتغير المناخ.
وبينما تبقى الصورة النهائية غامضة، فإن هذه الخطوة تعني شيئًا واحدًا مؤكدًا: أن المعركة التكنولوجية بين القوتين لن تُحسم بالقرارات المنفردة، بل بإدارة ذكية للتنافس، وليس بإلغائه.