تشير التقارير الأممية، من ” اوتشا” -مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية- إلى أن الضفة الغربية تحولت جغرافيا من مجرد ساحة صراع إلى فضاء إنساني معقد، حيث يواجه المدنيون مخاطر يومية وتحديات حماية مستمرة تتطلب استجابة سياسية دولية فاعلة وتعاوناً أوثق بين الأطراف المعنية ووكالات الإغاثة والجهات المانحة بما يعزز الالتزام بالقوانين الدولية المتعلقة بحماية المدنيين.
حدة العنف
وتتصاعد حدة العنف فى الضفة الغربية، حيث تؤكد الأمانة العامة للأمم المتحدة أن أكثر من ثمانين فى المئة من الفلسطينيين الذين قتلوا منذ بداية عام 2025 على أيدى قوات الاحتلال الإسرائيلي كانوا فى شمال الضفة، حاملا ذلك إشارة واضحة إلى أن ساحة الصراع قد تحولت بالفعل إلى جبهة جغرافية ذات أبعاد إنسانية وسياسية عميقة تتجاوز أعداد القتلى وتدفع السكان إلى خيارات صعبة بين البقاء والبحث عن ملاذ آمن، وبين المشاركة فى مسارات كفاحية أو سلمية تسعى إلى حماية الحياة والكرامة.
الحصيلة الرسمية
وتشير الحصيلة الرسمية إلى أن مقتل أكثر من مئة وثمانين فلسطينيين خلال الشهور الأخيرة يترك وراءه أسئلة ملحة حول فاعلية آليات الحماية الدولية ومسؤوليات الأطراف المختلفة أمام تزايد الانتهاكات، بينما يلاحظ وجود زيادة ملموسة فى العنف الاستيطانى الذى يطال مدنا مثل نابلس، حيث أطلق مستوطنون النار على رجل فلسطيني فأردوه قتيلا إضافة إلى سلسلة هجمات استهدفت نحو أربعة عشرة تجمعا سكنيا ما بين حرق للمنازل وممتلكات أخرى تعكس نمطا من العنف المنظم ينسف أى فكرة لتهدئة مؤقتة أو حل وسط.
ففى شمال الضفة الغربية تتصدر محافظة جنين المشهد، فهنا تتوالى الأعداد والهياكل التى تهتز جراء الضربات والاشتباكات وتتكشف قصص العائلات التى فقدت أحبتها فى أتون الاعتداء اليومى من جيش الاحتلال.
وفيات المدنيين
وتبرز بيانات الأمم المتحدة أن نسبة عالية من الوفيات تسجل بين المدنيين مع وجود عدد من الحالات التى تعكس تعقيدات الوضع على الأرض، حيث يظل التفاوت بين الواجبات الدولية لحماية المدنيين ومسؤوليات سلطات الاحتلال ومسؤوليات السلطة الفلسطينية موضوع نقاش حيوى يخص كيف يمكن بناء شبكة حماية أكثر فاعلية تطال حماية الأطفال والنساء والمرضى وكبار السن.
الحياة اليومية
على صعيد الحياة اليومية يعكف الأهالى وأصحاب الحرف على التعايش مع نقص المواد الأساسية وتدهور الخدمات العامة، فالمنازل التى تعرضت لأضرار واسعة تقف كأيقونات على حالة التدمير التى يعانى منها السكان، كما أن وجود خطوط تماس واسعة يعرقل حركة التنقل والتعليم والصحة وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على فرص العمل والتنمية الاجتماعية ويعيد طرح تساؤلات حاسمة حول جدوى استراتيجيات الحماية الدولية وأدوار وكالات الإغاثة العاملة فى المجال الإنسانى فى تقديم مساعدات عاجلة ومحدودة وبشكل يراعى الحساسية الأمنية.
تفاعل دولى
من زاوية الاستجابة الدولية فقد شهدت الفترة الأخيرة تنامى الاهتمام الأممى بالقضية، حيث رصدت وكالات الإغاثة الدولية دعما متزايداً، لكن الواقع يظل أشبه بمهمة معقدة تشترط التنسيق المستمر بين أطراف متعددة بما فيه الأمم المتحدة والسلطات الفلسطينية والكيانات الإسرائيلية، إضافة إلى الجهات المانحة والمنظمات غير الحكومية.
وهذا التعقيد يفرض قراءة سياسية تتجاوز المأساة الإنسانية إلى فهم أوسع لمسارات السلام والتهدئة فالمؤشرات على طاولة المجتمع الدولية تدعو إلى بناء جدار من الثقة يتضمن حماية المدنيين وفتح حوار مستدام يتعلق بالوضع النهائي للمنطقة وتحديد مسارات إدارة الموارد والممرات الإنسانية وتخفيف الضغط عن السكان.
مساءلة قانونية
إلى جانب ذلك تبرز مسألة المساءلة القانونية كعنصر حاسم فالمسؤولون عن ارتكاب الجرائم ضد المدنيين يتعين أن يخضعوا لآليات تحقيق شفافة تتيح للضحية وللمجتمع الدولى الاطمئنان إلى أن حلقات العنف لن تبقى بلا عناوين واضحة وبلا ردع مناسب فالإبقاء على هذه الضمانات يشكل جزءاً رئيسياً من ثقل السياسة الدولية التى تدفع باتجاه حل يحقق الحد الأدنى من العدالة الإنسانية ويعزز الثقة بين الأطراف.
الخدمات الأساسية
وبينما تستمر التحركات السياسية والدبلوماسية يبرز تحدى حماية الأطفال والنساء والمرضى وكبار السن الذين يقبعون غالباً فى قلب مناطق التصعيد، فهناك حاجة ماسة إلى تعزيز وجود القوى الدولية التى تقدم الرعاية الطبية والتعليمية وتوفير الحماية المؤسسية لهم، فالمشهد يتطلب ليس فقط تقديم المساعدات العاجلة بل أيضاً بناء قدرات محلية مستدامة تضمن استمرار الخدمات الأساسية حتى فى أوقات الاشتباكات.
تطوير اطار سياسى
أما بالنسبة للمستقبل فالمتغيرات الإقليمية والدولية تفرض أن تكون الاستجابة أقوى وأكثر اتساقاً، فإلى جانب آليات الإغاثة الإنسانية هناك حاجة ملحة لتطوير إطار سياسى يتيح الوصول الآمن للمناطق المحاصرة وتخفيف القيود المفروضة على حركة الناس والبضائع، وتبنى حلول طويلة الأمد توازى بين الأمن والحرية والكرامة الإنسانية، وفى هذا السياق تبرز أهمية الاتفاقات الدولية التى تؤسس لآليات حماية شاملة وتحديد مسؤوليات الأطراف وتفعيل وسائل الضغط والردع عند اللزوم بهدف إنهاء دوامة العنف وفتح آفاق جديدة للحياة المدنية المستقرة.
الأمن والحقوق الانسانية
ويمكن قراءة التطورات على أنها تذكير قوى بأنه دون حماية فعالة للمدنيين، ودون مساءلة رادعة ودون مسار واضح نحو حل سياسى يحظى بقبول الجميع، ستظل الضفة الغربية ساحة امتحان مستمر للمجتمع الدولى، وتظل الحاجة ملحة للعمل المشترك بين الأمم المتحدة والدول الأعضاء والجهات المعنية على الأرض لإيجاد معادلة توازن بين الأمن والحقوق الإنسانية، وأن تبقى الكلمات جزءاً من العمل لا مجرد تصريحات كلامية وأن تتحول المساعدات إلى استثمار حقيقى فى الإنسان الفلسطيني وفى البنية التحتية التى تساند صمود الأهالى وتعيد بناء الثقة فى فرص الحياة الكريمة.