“أوهام طائر الزقزاق”.. شعر: يسري الخطيب
“طائر الزقزاق”.. هو الطائر الوحيد الذى يخرج من البيضة بقدميه ..
يمشي .. وبقايا البيضة يغطّي كل رأسه ولم ير النور بعد ..
يجري .. يقع ..
لا ييأس أبدا .. كل ذلك وبقايا عرينه (تلك البيضة) لم يتخلص من بقاياها ..
وعندما ينجح ويرى النور، يقتحم فم التمساح ليلتقط طعامه من بين أسنانه.. ثم يقفز بين يدي المارة ببلاهةٍ شديدة ..ِ
جرأة .. سذاجة .. اندفاع .. تناقض ..
فـ طائر الزقزاق، تلخيص للنفس البشرية التي قال عنها رب العزّة:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)
_________________________________________
وَوَضعـتُ قلبـي فـي دواتـي كي أخُطَّ وصيّـتـي
وأناملـي حَـوْلَ البنـانِ بَكَيْـنَ هَوْلَ مُصيبتـي
ودموعهم تجري تُسَطـِّرُ في سهوبِ وريقَتـــي
والأرضُ تصرخُ في فـؤادي أن يلملـمَ قصّتــي
والطبُّ يُعلـنُ للعريكـةِ يأسـهُ مـن حالتــي
والرَمْسُ ينتظـرُ الزيارةَ عاشقـاً لِوفـَادتــي
وغـداً أُوَسَّــدُ في التراب ِ… غداً تُوسَّدُ هامتـي
آهٍ علــى تلك الخليقـةِ .. مَن يُجَفّفُ عَبْرَتـي ؟
*******
قد قِيل لي يومًا بأني من بقايا الراحليـــــنْ
مُذ كنتُ طفلاً أرسمُ الأحلامَ في كفِّ السنيـــنْ
أَعدُو مع الفجرِ المُحَمَّلِ بالثمارِ وبالأنيــنْ
مُتسربِلاً يشدو هنا … آهٍ على المُتسربليـــنْ
بين الفجاجِ وفي المَفاوز، في نقاءِ الياسَمِينْ
في أُلقةِ الأملِ المسافرِ في جبينِ الساجديــنْ
كنا هنا – يوماً هنا – يا أرضُ هل تتذكّريـــنْ ؟
هل تَبْلعين رُفاتَنَا وبذِكرنا لا تَعْبَئيــــــنْ ؟
*******
هيا بربكَ يا بنانُ نخطُّ آهــاتِ القَـــــدَرْ
أهوَ اللغوبُ يهدُّنى ؟ أم هدَّني طولُ السَّـفَـرْ ؟
أم أنه مُــرُّ الفراقِ على أزاهيرِ البَشَـــــرْ ؟
واهٍ مريضٌ ينطفي ويعودُ يجترُّ الصُّـــوَرْ
ويلوذُ بالصَّبْرِ الجَمِيلِ هنا وفي مرمَى الخَبَرْ
سيفُ الحقيقة دائماً – كالموتِ – في تيهِ البَصَرْ
لا فرق بين الشاهقات ِمن البيوتِ وفي المَدَرْ
ما أهوَنَ الدنيا – وربِّي – في عيونِ المُحتَضرْ
*******
أنا “طائرُ الزقـزاقِ” قالـوا إنني دَومـاً عنيـدْ
أمضي وتعدو فـي ركابـي كلُّ هالاتِ النشيـــدْ
نورُ المحجّةِ أسْوَتِي والاستنامة ُفي مزيــدْ
وغدا سيطوينا الثَّـرَى ونكونُ من أهلِ اللحـــودْ
يا (قلب مصحفُه البَصَرْ) أنَّى لعيني من جديدْ ؟
تباً لحلمٍ زارني في غَمْـرَةِ الوَهـَـنِ الشــديـدْ
يشدو على قيثارتي يا ليت شعري ما النشيـــدْ ؟
غيبوبة ُ النجمِ المُسَجَّى في الورى “بيتُ القصيدْ”
*******
أنا طائرُ الزقـزاقِ يا قلمـي وأنتظرُ الرحيــلْ
هل تعزفُ الألحانَ بعدي أَمْ تنوحُ على الخمـيلْ ؟!
لا بل تُغَنِّـي يا بنانُ فأنتَ في الـرَّوْضِ رســولْ
تشدو على الأرضِ الوِهَادِ وبالجبالِ وفي النخيلْ
سَـطِّـرْ لأمي أنني ما بِعْـتُ ترياقَ السبيـــلْ
لم أَنْسَ يا أُمُّ النصيـحَ ولا حكاياتِ الأصيـلْ
كم قلـتِ لي: إن المريـضَ عليه فى الدنيا القليلْ
يا طالمـا نَبَّهْتِنِي خَـوْفاً على قلبي العليــلْ
*******
لا تبكِ يا أمّاهُ إني مــن رياحيـنِ السمــاءْ
قد كنتُ طيفاً ها هُنا يشـدو ويصـدحُ بالغنــاءْ
كم قلتِ لي: هيا وليدي في الهواءِ وفى الرُّوَاءْ
وَدَعِ السياسةَ إنها نــارٌ بأطرافِ الرداءْ
بل إنها باتت صغيــري لعبــةً للأغنياءْ
يتمالـؤونَ لَــدَى العشـىِّ وينكُصـونَ مع الضياءْ
والعدلُ ماتَ مع السّنين وفي فمي – يا شِعرُ – ماءْ
لا تبكِ يا أمي صغيــراً ، يَرْعَوي ، لَبَّى النداءْ
*******
قد كان حُلمي أن أرى الأبناءَ – حَـولي – عِتْرَتي
وتطلُّ أطـيافُ الـبراءةِ مـن عيـون حبيبتي
وهي التى قالتْ: ” فـؤادي لم تزلْ وقضيــتي“
ألهـو مع ابني الصغيــرِ وفي ضفائر طفلتي
يحنو صغاري .. يمرحـونَ .. مع صغارِ أخَيـَّتي
وتـرفُّ أنسـامُ الأُبُــوَّةِ تستكيـنُ بمهجــتي
طفلـي الرضيـعُ بصوتـهِ يبكي ويقلقُ راحتـي
فيضمّــهُ دفءُ الأمومةِ في ربـوعِ سعادتـي
*******
كم كنتُ أحلمُ يا بنـانُ بـأن أُوَسَّـدَ بالبقيــعْ
ويضمـني طيبُ الثَّـرَى ويلفـني ” نـورُ الشفيعْ“
فأكـون بيـن عطورهـم كفراشـةٍ بين الشموعْ
والآن أمضي – ليتني – ما كنـتُ من هذا القطيـعْ
اُنظرْ إلى الكفنِ الذي نسجوهُ للقلبِ الوجيـعْ!
مَن كان يوما في الدُنا طيراً على غُصنِ الربيعْ
أضحى المُغسِّلُ لاهثاً بالماءِ في أمـرٍ سريـعْ
من كان خِـلِّي حاملاً نعشي ويمضي بالجميـعْ
*******
خُطُّوا على قبري الوصيةَ كي يـراها كلُّ حـَـــيّ
قولـوا لهم: إن الحياةَ وضيعـةٌ في كلِ شَــــيّ
إلا العبـادةَ يا أخي والديـنُ نــورٌ يا بُنـــَـــيّ
قلْ للمغسِّـلِ إننـي طيـفٌ بأشـلاءِ الصَّبـــــيّ
رفقـاً برأسـي يا أخـي .. ويدي وأيضـاً مُقلتـَـيّ
هذا المُسَجَّـى يا أخـي قـد كان في الدنيا أَبـِــيّ
لاتحملونـي للثَّــرَى وعيونكـم تبكـي عَلـَـيّ
بـل تقرؤوا ” الذِكـرَ الحكيـمَ ” فإنـه كنزٌ لَـدَيّ
*******
قولوا لأهلي: لا تزوروا في المدافـنِ تُربتـي
من قبل أسبوعٍ يمرُّ على روائــحِ جثتــي
والدودُ في بدني أكولٌ جاهلٌ شخصيتـــي
لو تفهمُ الديدانُ شِعْراً تنحني لقصيدتـــي
وتُقبِّلُ اللحدَ الذي يحوي رُفـاتَ سفينتــي
لكنهُ القبرُ الذي يمضـي بغيـر إرادتـــي
يطـوي عظامـي لا يبالـي رحمـةً بشبيبتي
هل تذكـرونـي إخوتـي أم أنتهي بنهايتي؟
*******
قد كنتُ نبضَ عقيدةٍ لا تنثني رغم البلاءْ
أنا رايةٌ ؟! أنا .. من أنا ؟ قُولي بربِّكِ يا دماءْ
يا ليت أمي لا تبــالي من خيالاتِ المساءْ
في نومها في صحوها قولوا لها هذا الرجاءْ
قولوا لأختــي: إننـي ما زلـتُ أجترُّ الضياءْ
وأتوقُ للآي الكريـمِ – عَليَّ – لا هذا البكاءْ
بل تذكريــنى للرضيـعِ وللحفيـدةِ بالثنــاءْ
أنا يـوم مَـوتـي يا أُخيَّـةُ حينما يمضـي الوفاءْ
*******
كـم كنتُ أحـلمُ بالريادةِ في مياديـن الأدبْ
لم أجـنِ غيـر فجيـعةٍ تبكـي على طيرٍ ذَهَبْ
ما أصعب الدنيا التي تـحــوِي أعاجيبَ العَجَبْ
ما بين ثكـلانٍ يئنُّ وَرَوْضَـةٍ تشـدو الطـَّـرَبْ
لا تفـرحـوا للغانميــنَ ولا الثـراءِ المُرتقـَبْ
أو تنـدبوا ليلَ الخليقـةِ فـوق أكفـانِ الحِقَـبْ
فِـرُّوا إلى اللهِ العظيـمِ فإنـهُ نِعـم المُحِـــبْ
يعطِـــي الدُّنا للعالميـنَ وحِبُّـهُ قلــبٌ أحَبْ
=======================
من ديوان (أوهام طائر الزقزاق) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 2004م