الأمة الثقافية

أَسرارُ البَيَان في القُرآن

لقدْ كثُر أُسلوبُ النِّدَاء في القُرآنِ الكَريمِ وتَنوَّعَ في مَبناهُ، وَتولَّدتْ عَن تلكَ المبَاني، مَعانٍ ودَلالاتٌ، في امْتدَاداتِها الصَّوتيّة وأبْعَادها البَلاغيّة؛ بالْـمدّ والهَمزِ، بالإثبَاتِ والحَذْف، والتَّقديمِ والتَّأخيرِ، والتَّعريفِ والتَّنكِير…:﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي﴾.﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾. ﴿أَفَغَيْرَ اللهِ تَامُرُونيَ أَعْبُدُ أيُّهَا الجَاهلُونَ﴾. ﴿ يَا أيَّــتُــهَا النَّفسُ الْـمُطْمَئِنَّةُ﴾. ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾. ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾.

لكِنَّكَ يَستَأْثِرُ بِنَظَركَ اسْتِئثَاراً غَلّاباً، في كلِّ هذَا، ذلكَ النِّداءُ الخاصُّ بالنّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، واخْتلافُهُ عن نِداءِ بَاقي الأَنبيَاءِ عليهمُ السّلام. تَجدُ ذلكَ في قولهِ تعَالى في نِدَاء الأنْبياءِ، وهُمْ ثَمانِيةٌ، منْ بَينِ خَمسةٍ وعِشرينَ ذُكرُوا في القُرآنِ : ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ﴾ ، ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ﴾ ، ﴿يَا إِبْرَاهيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ ، ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾ ، ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَليفَةً في الأَرْضِ﴾، ﴿يَا زَكَرِيَّاءُ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ﴾، ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾،﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنّي مُتَوَفِّيكَ﴾ …

فَناداهُم، عَليهمُ السّلام، جَميعاً بأسْمَائهمُ الْـمُجرَّدَة، إلّا النّبيَّ (مُحَمَّداً) صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، فقَدْ خاطبَهُ بقولهِ: ( يَا أَيُّهَا النَّبيّ) و(يَا أَيُّهَا الرَّسُول) ،فعَدلَ بذَلكَ عنِ الصِّيغَة البَسيطةِ للنّداءِ، باسْتعمَال حرف النّداء(يَا)، إلَى الصِّيغةِ الْـمُركّبة للنّداءِ (يَا أَيُّها). وقدْ كثُر النّداءُ بصيغَةِ (يَا أَيّها) في القُرآنِ لِغرضٍ بَلاغيّ، قالَ عنهُ (الزّمخشَريّ) في (الكَشّاف) :« كَثُر  في القُرآنِ النِّداءُ بــــــ(يَا أَيُّها) دونَ غَيْرِهِ، لأنَّ فيهَا أَوْجُهاً منَ التَّأْكِيدِ، وأَسْبَاباً منَ الْـمُبالَغَة».

وهكَذا فقَدْ نادَاهُ اللهُ تعالَى بــــــ(النَّبيّ) ثَلاثَ عَشْرةَ مرّةً، في سِتّ سُوَر؛ أوّلُها في سُورةِ (الأَنفَال)، بقَولِه تعَالى: ﴿يَا أَيُّهَا النّبيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ.﴾،و آخِرُها في سُورَة (التَّحْريم)، في قَولهِ عزَّ وجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ﴾. ونَادَاهُ بـــــ(الرَّسُول)، مَرَّتينِ في سُورَة (المائِدَة)؛ إحْدَاهُما قولُهُ تعَالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾.

 بَلْ إنّك لَتجِدُ الأَتْبَاعَ والْـمَلأَ منْ قَومِ الأَنْبِياءِ، يُنادُونَـهُم بأَسمَائِهِم: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فيهَا قَوْماً جَبّارِينَ﴾، ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا﴾، ﴿إِذْ قَالَ الحَوَاريُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾. لكنَّ مَنزلَةَ النّبيّ (مُحَمّدٍ) صلَّى اللهُ عليهِ وسلّم، أَعظَمُ عندَ اللهِ وأَكرَمُ، ودَرجتُهُ أسْمَى وأَرفَع. فنَهى النَّاسَ عنْ مُنادَاتهِ كمَا يُنَادي بَعضُهُم بَعضاً، بالأَسمَاءِ والكُنَى، بلْ عَليهمْ أنْ يَجعلُوا لهُ في ذَلكَ خِصِّيصَى؛ فَيعظِّمُوهُ ويُشَرّفُوهُ ويُبَجِّلُوهُ، فَيَدْعُوهُ بخَيْر مَا دَعاهُ بهِ ربُّهُ. فقالَ تعَالى في نَهيٍ قَاطعٍ: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾. جاءَ في(تَفسِير ابْنِ كَثيرٍ):«قالَ(الضَّحّاكُ) عَن (ابْنِ عبّاسٍ) : كَانُوا يَقُولُونَ (يَا مُحَمّد)، (يَا أَبَا الْقَاسِم)، فَنَهاهُم اللهُ عَزَّ  وجَلّ عَنْ ذلكَ، إِعْظاماً لِنَبِـيِّهِ، صَلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. قالَ: فَقُولُوا (يَا نَبيَّ اللهِ)، يَا (رَسُولَ اللهِ). وهكَذا قالَ (مُجاهِدٌ) و(سَعيدُ بنُ جُبَير)».

فجاءَ ندَاؤُه منْ قبَلِ اللهِ تعالَى، بأَفضَلِ صِفاتِهِ الَّتي رفعَ لهُ بهَا قَدْرَه، وأَعلَى مَنزلتَه، تَعْظيماً لهُ وتَشْريفاً. إذْ أَفضلُ مَنازلِ الخَلقِ إطلاقاً، عندَ اللهِ، مَنزلةُ النُّبُوّة والرّسالَة. وقدْ فضّلَ فيهَا بَعضهُمْ علَى بعضٍ، وجعَل سَيّدنَا (مُحمّداً) سَيّدَ الأنْبياءِ، وأَشرفَهمْ وأعْلَاهُم مَنزلةً، وأَمرهُم بالإيمَانِ بهِ ونُصْرَتِهِ، وأخذَ عَليهمْ في ذَلكَ مِيثاقاً غَليظاً.

بل إنهُ تعَالى، جعلهُ سابقاً لهُمْ في النُّبُوّة، وهُمْ لهُ تَبَعٌ، كمَا في حَديثِ(جَابرِ بنِ عبدِاللهِ):« وَالّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، كانَ حَيّاً مَا وَسِعَهُ إلاّ أَنْ يَتَّـبِعَنِـــي». وَأورَدَ (القَاضِي عِيَاض) في (الشِّفَا)،قولَهُ: «قَالَ ( قَتَادَةُ) : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ، وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ». وأخْرجَ (البُخاريّ) في (تَاريخهِ) «عَنْ (مَيْسَرَةَ الفَجْر) قالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى كُنْتَ نَبِـيّاً؟ قَالَ: وَآدمُ بَـينَ الرُّوحِ والْجَسَد ».

وأَنْتَ إذا تَقصَّيْتَ، فإنّكَ لا تجدُ في القُرآنِ  لَفْظَ(النَّبيّ) مُعرّفاً بِـــ(ال)،إلَّا والْـمَقصودُ بهِ (مُحَمَّدٌ) صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم. فتِلكَ (اللّام) فيهِ إنَّمَا هيَ لِلعَهْدِ الذِّهْنيّ، وكأنَّ اسمَ(النَّبيّ) صارَ عَلَماً عَليهِ بالغَلَبَةِ، كمَا صارَ لَفظُ(البَيتِ)عَلَماً بالغَلَبَةِ عَلى(الكَعْبَةِ).فمتَى ذُكرَ  اسمُ(البَيْتِ)،لا يَتَـبادَر  إلى الذِّهْن إلّا أنَّهُ(الكَعْبَةُ)، دونَ سواهَا منَ البُيُوت. قالَ تعَالى: ﴿فَمنْ حَجَّ البَيْـتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾. وكذَلكَ هُوَ اسمُ(النّبيّ) في القُرآنِ، إذَا ذُكرَ  كانَ القَصدُ منْهُ النَّبيّ (مُحمَّدٌ) صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، دُونَ غَيرهِ منَ الأَنبيَاءِ.

وأنتَ إذَا نَظرتَ إلى تَركيبِ النّداءِ في (يَا أيُّهَا ) وقَابلتَهَا بــــ(يَا)، تَبيَّنَ لكَ مَدَى تَأثِيرِ مَبْناهَا في مَعنَاهَا ، حيثُ تَجدُ تلكَ الاسْتِطالةَ الصّوتيّةَ الْـمُمْتدّة في الزَمَن، والَّتي اسْتَلزمَها وُجُودُ الهَمزَة بعدَ ألِفِ الْـمَدّ في (يَا ) ؛ فكانَ مَدّاً مُشبَعاً يَصلُ عندَ (وَرْشٍ) إلَى سِتّ حَرَكاتٍ، يَتْلُو  ذَلكَ (همزَةٌ) ، وهيَ حرفٌ قَويّ شديدٌ لِجَهْريّتهِ وخُرُوجهِ منْ أقصَى الحَلْقِ، تَتلُوهَا (ياءٌ) مُشدَّدةٌ، يَتضاعَفُ بذلكَ صَوتُهَا، وعَليهَا (ضَمّةٌ) ، وهيَ أثقَلُ الحَركاتِ، ثمّ (هَاءٌ) مَفتُوحةٌ بحرفِ مدٍّ. كلُّ ذلكَ يجعلُ منَ النِّداءِ علَى هذَا النَّحوِ، نداءً علَى درجَةٍ منَ الامْتدادِ الصوتيّ عاليةٍ، يقعُ علَى مُنادىً، لنْ يَكونَ إلّا ذَا امْتدادٍ في الكَمَال رَفيعٍ لا يُضاهَى، وبُعدِ مَنزلَةٍ في السُّمُوّ لا تُنالُ ولا تُدْركُ، مَنزلَةٍ تَرفعُهُ سَيّداً علَى الخلْقِ كلّهِم، في مَقامٍ لمْ يُدرِكْهُ مَلَكٌ مُقرّبٌ، ولَا نَبيٌّ مُرسَلٌ.

 ثُمّ ألَا ترَى اللهَ تعالَى قَدْ أَقسَمَ بعُمْرِهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ:﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. قالَ (القَاضي عِيَاض) في(الشِّفا):«اتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، بِمُدَّةِ حَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَصْلُهُ، ضَمُّ الْعَيْنِ مِنَ الْعُمْرِ، وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَمَعْنَاهُ : وَبَقَائِكَ يَا مُحَمَّد، وَقِيلَ وَ عَيْشِكَ، وَقِيلَ:  وَ حَيَاتِكَ. وهَذهِ نِهايَةُ التَّعظِيمِ، وغايَةُ البِـرّ والتَّشريفِ».

ولا عجَبَ فقدْ قالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم عنْ نَفسهِ، فيمَا رواهُ الإمامُ(أحْمَد) منْ حديثِ (أَبي سَعيدٍ الخُدْريّ) : «أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ يَومَ القِيَامَةِ وَلا فَخْرَ ، و بِيَدِي لِوَاءُ الحَمْدِ و لَا فَخْرَ ، و مَا مِنْ نَبيٍّ يَوْمَئذٍ، آدَم فَمَنْ سِواهُ، إلّا تَحْتَ لِوَائِي ، وأنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، ولَا فَخْرَ». فهُوَ يَفضُلُ بهَا الأَنبيَاءَ جمِيعاً ؛هُمُ الأَنْبيَاءُ الْـمُصطَفَوْنَ، وهُوَ (النَّبيُّ) بِخُصُوصٍ، وأَلطافٍ وأَحوَالٍ ومُعجزَاتٍ وكَرامَاتٍ، لا يَشْرَكُهُ فيهَا أحدٌ. فَضَّلهُ الله تعالى، قُرباً و اصْطِفاءً ، ومَيّــزَهُ خِطاباً و نِداءً. صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آلهِ وصَحبهِ.

——————

مصطفى بوعزة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى