بحوث ودراسات

إبراهيم مشارة يكتب: مع السامرائيين إبراهيم وفاضل في مقارباتهما اللغوية

ظل إبراهيم السامرائي (1923/2001) مثار تقدير واحتفاء طول حياته ومشواره العلمي فهذا اللغوي خريج السوربون عرفت حياته خصبا وجدا وتأليفا أكاديميا ومشاركة دؤوبا في مختلف المحافل العلمية والأدبية في العالم العربي والغربي على السواء، هذا الناقد تلميذ طه الراوي ومصطفي جواد وعبد العزيز الدوري الذي قدر له أن يسهم إسهامات ضافية في فقه اللغة والنقد اللغوي كذلك.

وكأن سامراء أو «سر من رأى» -مع أن الكاتب ولد بالعمارة- إلا أنه ينسب إلى سامراء هذه المدينة التاريخية التي بناها المعتصم لتكون منافسا لبغداد «دار السلام» ومفاخرا بها أمام حواضر الثقافة العربية كالبصرة والكوفة، تأبى هذه المدينة التاريخية إلا إمداد الساحة الثقافية العربية بأسماء لها إسهاماتها الجادة في الفكر والنقد وخاصة ما تعلق بجانب اللغة نحوها وصرفها، بيانها وبديعها، عروضها وإملائها، فقهها وأسرارها وشواردها حتى إذا كان الكتاب ينزل إلى المكتبات وفي معارض الكتب ولاحظ الزائر اسم سامراء أعلاه سارع إلى اقتناء الكتاب إدراكا منه لقيمته العلمية والأدبية على السواء.

احتفي إبراهيم السامرائي بشعراء العراق الكبار ولا غرو في ذلك فهم طلائع الشعر العربي في القرن العشرين في العالم العربي سواء أكان شعرا عموديا أم تفعيليا وقد قدم دارسات ومقاربات لأشعار هؤلاء الشعراء دراسة وتذوقا ونقدا كالزهاوي والكاظمي وعلي الشرقي والشبيبي والرصافي والزهاوي والجواهري والنجفي ومحمد بهجت الأثري كما احتفي برواد الشعر الحديث كنازك الملائكة والبياتي والسياب وبلند الحيدري، وهكذا قدم في دراساته ومقارباته النقدية جل شعراء العراق الكبار وتناولهم بالنقد مركزا على الجانب اللغوي وفق المنهج الفقهي القديم الذي مارسه أسلافنا النقاد القدامى أي النظر في سلامة اللغة لفظا وتراكيب وما جاء على المألوف والمقيس وما خرج وجاء شاذا غريبا مع الاهتمام بالتضمينات والسرقات الأدبية أو التناص كما يسمى اليوم وهو عمل نقدي يستلزم ثقافة لغوية كبيرة وهضما للتراث النقدي القديم ولعلوم اللغة، ولم يقترب السامرائي في عمله النقدي من المناهج النقدية الحديثة وتطبيقها في دراساته مكتفيا برحلة في ثنايا اللغة والأساليب محيلا ما يقرأ على القواعد العربية والنظريات العلمية لمختلف علوم اللغة العربية والمعاجم العربية العريقة مما يجعل من دراساته دراسات كلاسيكية ولكنها على الرغم من ذلك لا تفتقد إلى روح البحث والتعمق في ثنايا اللغة والمفاضلة بين الشعراء على أساس متانة اللغة وجودة السبك والبعد عن الخلل ودقة التشبيهات والاستعارات وسلامة البحور والإيقاع.

ظل الناقد يلح على ضرورة إتقان اللغة لمن يمارس كتابة الشعر فلغة الشعر هي مادة كل من يتقنها ويعرف أسرارها مثلما يرى بل يقول (اللغة ترجمة لوجود الإنسان أو قل صياغة لهذا الوجود الحضاري فهي حضارة بسبب من هذا قبل أن تكون وجودا خارجيا يترجم في شخوص ومعالم هي من صنع الإنسان المتحضر). فالإنسان هكذا لا وجود له إلا باللغة وفي اللغة كما أن اللغة تتطور وتتصل بالحياة وبالمجتمع والجمود على تراكيب سالفة وألفاظ قديمة من شأنه أن يميت اللغة ويقتل نسغ الحياة فيها ويصيبها بالشلل، هكذا من هذا المنظور اللغوي اقترب السامرائي متذوقا وناقدا لشعراء العراق الكلاسيكيين والمحدثين. فهي سياحة لغوية وبيانية في أشعارهم ولم يستدع المناهج الحديثة في النقد مع معرفته بها مكتفيا بالجانب اللغوي فكأنها مقاربة خارجية تكتنفي باللغة فقط وتحيل على مدونات علومها ومعاجمها تأكيدا لفكرة مسبقة قال بها وهي ضرورة إتقان اللغة لمن يمارس نظم الشعر. فالكاظمي (1865/1935) مثلا تتجلى فيه الروح البدوية ومكانة القبيلة وهو يقتفي أثر المتنبي والشريف الرضي والفرزدق الذي يعجب به الشاعر:

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا

ولو سلكت سبيل المكــارم ضلت

بينما كان الشاعر جميل صدقي الزهاوي (1863/1936) عند السامرائي شاعر الفكرة والسهولة حتى قيل عنه إنه شاعر العلماء وعالم الشعراء وهو صاحب مطولة “ثورة في الجحيم” التي تنتصر للفكر والفلسفة والتجديد ولو جر ذلك على الشاعر السخط من المحافظين:

والشعر لست أقولــه

إلا كما أنا أشعــــــــر

ما إن أقلد من مضت

قبلي عليه الأعصــــر

والشعر قائله بتــــقـليـ

د الطبيعة أجـــــــــــدر

أما الشبيبي فكان (1889/1965) متمثلا للبداوة العربية مع شيء من الصنعة متمثلا امرئ القيس ومقتفيا لأثره حتى في خياله وبيانه كأن يقول امرؤ القيس:

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

فيقول الشبيبي:

وقد نفرالشوك الكثيف عن الثرى

عثاكل جن أو رؤوس سعـــــــال

ويشيد السامرائي بلغة محمد بهجت الأثري (1904/1996) فلغته محكمة أدت الأغراض أداء حسنا على الخلاف من علي الشرقي مثلا الذي يرتكب هفوات لغوية فشعره أشبه بالقرزمة وتقليد مع أن له بعض الشعر الصافي العذب أحيانا.

ولا يفوته أن ينوه بلغة الجواهري (1899/1997) ومتانة أسلوبه ويشيد به لما يدعو الشاعر إلى امتلاك ناصية اللغة عبر قراءة أمهات الكتب والدواوين القديمة لفحول الشعراء:

تحلب أقوام ضروع المنافـــــــع

ورحت بوسق من أديب وبـــارع

وعللت أطفالي بشـــــــــــر تعلة

خلود أبيهم في بطون المجامــــع

وراجعت أشعاري سجلا فلم أجد

به غير ما يؤدي بحلم المراجـــــع

ومستنكر شيبا قبيل أوانـــــــــــــه

أقول له هذا غبار الوقائــــــــــــع

بينما حمل على أحمد الصافي النجفي (1887/1977) حملة شعواء فهو حسب رأيه لا يعرف الأصول وحدود اللغة على أنه لا تخطئه اللمسة الفنية أحيانا وهذا راجع لحياته بلبنان حتى أنه قال:

أزحلة عم فيك الحسن حتى

لتغلو فيك أسعــــــار الذميم

وهو شديد الإعجاب بنفسه والزهو بشعره مع أنه يرتكب هفوات لغوية كثيرة بل يراه غريب الأطوار ويحمد له منزعه القومي وتعاطفه مع البؤساء ونزعة الرفض كذلك:

دافع الشعب بالحكومة أن يظلمك

وادفع بالشعب ظلم الحكومـــــــة

ونقده اللاذع للأوضاع السيئة اجتماعيا:

ومستشفي متى يدخل إليـــــــه

مريض يسترح من ذي الحيــاه

كأن به لعزرائيل جـــــــــــــندا

يميت الناس من قبل الوفــــاة

يسافر منه للأخرى دوامـــــــا

قطار بالعشي وبالغــــــــــداة

وهو يرى الشعر إلهاما:

يجئ صحيح الشعر قسرا على الحجى

ومن ينظم الأشعار طوعا يقل هـــذرا

اللغة عند الصافي لغة سهلة واضحة وكان تقليديا في غزله باصطناع أدوات التثنية على عادة الشعراء القدامى واتخاذ مقدمات غزلية للحديث عن أوضاع العراق:

إذا كان مدح فالنسيب مقدم

أكل فصيح قال الشعر متيم؟

والرصافي (1875/1945) كما يرى الناقد يتميز شعره بطابع عام هو طابع السهولة والوضوح ولعل هذا كان سببا في شيوع شعره بين الناس تلك السهولة التي تقترب من حديث الناس اليومي وهو يقع في عثرات لغوية كما بين ومن أمثلة ذلك قوله:

كم على الأرض رفات باليات

من جسوم طحنتها الدائـــرات

أو قوله:

والماء يمسي وشلا تارة

وحوضه آونة متـــــرع

فالرفات كلمة مفردة وهو اعتبرها جمعا وكذا آونة جمع وهو اعتبرها مفردا.

وهو يرى أن القدماء نظروا إلى عمود الشعر نظرا جامدا وكان من الخارجين عليه مسلم بن الوليد وأبو تمام وأبو نواس ومن الشعراء المحدثين الذين تناولهم السامرائي بالدرس والنقد بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة ويرى أنهم امتلكوا الثقافة القديمة اللازمة للشاعر المحدث فضلا عن الاقتراب من هموم العصر وتطلعات الناس والتجديد في اللغة باعتماد الشائع والاقتراب من العامية الفصيحة أحيانا كما عند الحيدري والترميز والإيحاء واستخدام الأسطورة والانفتاح على الثقافة العالمية كل ذلك يجعل من شعرهم شعرا حديثا التصق بالهم الوطني والقومي والإنساني وجدد ماء الشعر العربي الحديث.

ويواصل صالح فاضل السامرائي (1933 سامراء) نفس الجهد النقدي والمقاربة اللغوية البيانية ولكن هذه المرة في الاقتراب من النص القرآني وتذوقه وكشف أسراره ودقائق تعبيره مستفيدا من جهود المفسرين القدامى كأبي حيان صاحب البحر المحيط والكرماني صاحب البرهان في متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبرهان والطبرسي في مجمع البيان في تفسير القٍرآن، وهو يركز في التعبير القرآني على كالتقديم والتأخير، الذكر والحذف والتوكيد، التشابه والاختلاف، فواصل الآي، السمة التعبيرية للسياق، الحشد الفني في القصص القرآني.

وهو يقول (صحيح أن كثيرا من الناس ليس لديهم اطلاع على المسلمات اللغوية وليس لديهم معرفة بأحكام اللغة وأسرارها أو من الصعب أن يهتدي إليها هؤلاء إلى أمثال هذه المواطن من غير دليل يأخذ بأيديهم ويبصرهم بأسرار التعبير ويوضح ذلك لهم بأمثلة يعونها ويفهمونها وهذا الكتاب أحسبه من هذا النمط فما هو إلا دليل يشير إلى شيء من مواطن الفن والجمال).

وقد لاقت جهود صالح السامرائي إعجابا لدى عموم الناس ناهيك عن مثقفيهم ومتوسطي الثقافة والتعليم وغير المختصين وجمهرة المتفرجين في العالم العربي في حصصه التلفزيونية التي ظل يقدمها من قناة الشارقة في حصة مشهورة هي «لمسات بيانية» مع محمد خالد ومن غير شك أن الالتفاتات الدقيقة للفظ القرآني واستخدام الروابط والتصوير الفني تكشف للمتابع سمو هذا التعبير وبلاغته ودقته ما كان يتهيأ لهم إدراكها من قبل. لقد اعترف أن الحديث عن الإعجاز القرآني في شبابه كان بالنسبة له محض نرجسية عربية واحتفاء من قبل المسلمين أنفسهم لكن تبين له لاحقا خطأ هذا الرأي فالنص القرآني ذو خاصية إعجازية لا مرية فيها وقد أتاح له انكبابه على قراءة القرآن الكريم قراءة لغوية وبيانية ومقاصدية مستعينا بجهود علماء اللغة والمفسرين القدامى وحسه البياني والجمالي من إدراك الإعجاز القرآني وخصائص السمة التعبيرية للنص القرآني مما جعله في طليعة الدارسين لهذا الإعجاز في العصر الحديث والمتحدثين عنه للجماهير الشعبية في الوطن العربي.

إبراهيم مشارة

كاتب وباحث جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى