الأمة: في غزة، لا تُقصف الأبراج فحسب، بل يُقصف معها مفهوم “الوطن” الذي بناه الفلسطينيون طوبةً طوبة، وشقةً شقة، على أمل حياة مستقرة في بقعة ضاقت بهم وبأحلامهم.
فمنذ بداية العدوان، يتعمد جيش الاحتلال الإسرائيلي استهداف الأبراج السكنية متعددة الطوابق، وكأنها “أهداف أمنية” يجب محوها. غير أن الواقع يكشف أن الهدف يتجاوز التكتيك العسكري، ليطال هندسة قسرية تهدف إلى التهجير الجماعي.
القصف لا يأتي عشوائيًا، بل يتم بشكل ممنهج، أحيانًا بعد إنذار وأحيانًا بدونه. الأبراج تتحول إلى رماد في لحظات، ومئات العائلات تجد نفسها بلا مأوى، تلتحف السماء وتبحث عن مكان يعيد لها شيئًا من انتظام الحياة وسط الفوضى.
الصحفية الغزية شيرين فايد، التي تقيم مع عائلتها في مخزن قريب من عمارة “الرؤية” التي تعرضت للقصف، تقول: “صوت القصف كان مرعبًا لنا وللأطفال، وما إن علمنا بإنذار الجيش حتى التزمنا البقاء داخل المخزن خوفًا من الشظايا التي وصلت لمسافات بعيدة”.
وتتابع في حديثها لـ” وكالة قدس برس”: “الاحتياطات لم تكن كافية. لحظة القصف اهتز المكان وكأن زلزالًا ضربه، وسحابة الدخان والبارود التي غطت المنطقة تسببت في اختناقي وضيق تنفس استمر لأكثر من ساعة”.
وتشير فايد إلى أن معاناة من يعيشون في الخيام كانت أشد وطأة: “الرعب كان أكبر بالنسبة للنازحين في الخيام، فهي لا تقي من الشظايا ولا توفر أي حماية”.
وتؤكد أن جميع سكان الأبراج المستهدفة هم من المدنيين، نافية صحة مزاعم الاحتلال بشأن وجود أهداف عسكرية داخلها، وتقول إن الهدف الحقيقي هو دفع السكان نحو النزوح جنوبًا، وتحديدًا إلى منطقة المواصي.
منذ الخامس من الشهر الجاري، يشن جيش الاحتلال واحدة من أعنف هجماته على مدينة غزة، مركزًا ضرباته الجوية على الأبراج السكنية التي تؤوي مئات العائلات، بعد أن دُمرت منازلهم خلال الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023.
في اليوم ذاته، قصف الاحتلال برج “مشتهى” المكون من 16 طابقًا، أحد أكبر الأبراج السكنية غرب مدينة غزة، والمُحاط بمئات الخيام التي تؤوي نازحين من شمال وشرق المدينة، وهي مناطق باتت تحت السيطرة الإسرائيلية.
أم أحمد الدحدوح، التي كانت تعد أرغفة الخبز لأطفالها داخل خيمتها القريبة من البرج، تروي لحظات القصف: “كنت أعد الخبز لصغاري حين سمعنا صراخًا يطالب بإخلاء المنطقة. تركت كل شيء خلفي، العجين، أدوات الطهي، وذكرياتي الصغيرة، وهرولت حاملة طفلي بينما يمسك الآخران بعباءتي، أبحث عن مهرب وسط الفوضى”.
وتضيف لـ”وكالة قدس برس”: “بعد أقل من ساعة، دوى انفجار هائل، وتحول البرج إلى كومة من الركام. حين عدت، لم أجد خيمتي، اختفت تمامًا تحت الأنقاض، وتبعثرت أغطية الأطفال، وطارت ثيابهم مع الغبار، حتى الخبز الذي كنت أعده لهم تلاشى”.
وتختم بالقول: “المكان لم يعد صالحًا للعيش، الغبار يملأ الهواء، رائحة البارود تخنق الأنفاس، وصوت الطائرات لا يفارق السماء. يبدو أن سياسة تدمير الأبراج تهدف إلى دفعنا نحو الجنوب، في محاولة لإفراغ المدينة بطائرات إف 16”.
وتشن قوات الاحتلال الإسرائيلي بدعم أمريكي مطلق حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، خلفت، وفق إحصائية يومية مفتوحة، يعدها “المركز الفلسطيني للإعلام” 64 ألفًا و656 شهيدا بالإضافة إلى 163 ألفا و503 جرحى، وأكثر من 9 آلاف مفقود، ومجاعة أودت بحياة المئات، فيما يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في ظروف نزوح قسري وسط دمار شامل.