تشهد إندونيسيا منذ مطلع سبتمبر 2025 سلسلة من الأحداث المتلاحقة التي تكشف حجم التحديات أمام الحكومة الجديدة برئاسة الرئيس برابوو سوبيانتو.
فمن احتجاجات عنيفة سقط فيها قتلى، إلى تعديل وزاري غير متوقع، مرورًا بخطط اقتصادية طموحة لكنها مثيرة للجدل، وصولًا إلى تحركات زراعية ضخمة تهدف إلى إعادة تشكيل منظومة الأمن الغذائي.
كل ذلك يجعل البلاد تقف اليوم أمام لحظة فارقة بين آمال التغيير ومخاطر الانزلاق في مسارات غير محسوبة.
احتجاجات الشارع: من الغضب الشعبي إلى التغيير السياسي
انفجرت موجة الاحتجاجات الأخيرة في العاصمة جاكرتا وعدة مدن إندونيسية على خلفية ما وصفه المتظاهرون بـ”الامتيازات غير المبررة” التي يتمتع بها النواب..
الشرارة جاءت مع الكشف عن حوافز مالية وبدلات سكن فاخرة، في وقت يعاني فيه ملايين الإندونيسيين من ضغوط معيشية خانقة.
لكن ما بدأ كغضب شعبي عفوي سرعان ما تحول إلى حركة واسعة، اتخذت منحى تصعيديًا حين سقط أفان كورنياوان، عامل توصيل طعام شاب، برصاص خلال المواجهات مع قوات الأمن. صورته وهو يرتدي حقيبة التوصيل على ظهره أصبحت أيقونة للاحتجاجات،
ومثّلت نقطة تحول في المزاج العام، حيث ارتفعت الأصوات المطالبة بمحاسبة المسؤولين ووقف “سياسة المكافآت للأقوياء”.
تحت ضغط الشارع وتزايد الانتقادات الإعلامية، أعلن الرئيس برابوو عن تعديل وزاري واسع شمل إقالة وزيرة المالية سري مولياني إندراواتي، أحد أبرز الوجوه الاقتصادية في البلاد، بالإضافة إلى وزير الأمن السياسي بودي جونوان.
هذه الخطوة فُسّرت على أنها محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، لكنها أيضًا مؤشر على أن الحكومة مستعدة لإعادة رسم سياساتها بما يتناسب مع الواقع الجديد.
الاقتصاد بين الطموح والضغوط
إقالة سري مولياني لم تمر مرور الكرام؛ فهي كانت شخصية ذات ثقل دولي ولها علاقات واسعة مع المؤسسات المالية العالمية. خلفها في المنصب جاء الاقتصادي بوروبايا يوده ساديوا، رئيس مؤسسة التأمين على الودائع سابقًا، الذي أطلق وعودًا طموحة بتحقيق نمو اقتصادي يصل إلى 8% سنويًا.
لكن هذه الوعود أثارت جدلاً واسعًا. فالمحللون يشيرون إلى أن الاقتصاد الإندونيسي يواجه عقبات هيكلية، بدءًا من ضعف البنية التحتية وارتفاع معدلات الفقر، وصولًا إلى الاعتماد الكبير على الصادرات الأولية.
كما أن الالتزام الحكومي بسقف عجز لا يتجاوز 3% من الناتج المحلي يضع قيودًا صارمة على أي محاولات توسعية.
ومع ذلك، يرى مؤيدو الوزير الجديد أن إندونيسيا تملك إمكانيات هائلة إذا أحسنت استغلال موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية، خاصة في مجالات المعادن الاستراتيجية مثل النيكل، الذي يشكل عنصرًا رئيسيًا في صناعة البطاريات الكهربائية.
كما أن الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية في مجالات التكنولوجيا والتحول الأخضر قد يفتح آفاقًا جديدة للنمو.
اتفاق “مشاركة الأعباء”: خطوة محفوفة بالمخاطر
أحد أبرز الملفات المثيرة للجدل هو الاتفاق الجديد بين الحكومة وبنك إندونيسيا المعروف باسم “مشاركة الأعباء”.
يقضي الاتفاق بزيادة مشاركة البنك المركزي في تمويل مشروعات تنموية ضخمة، مثل بناء ثلاثة ملايين وحدة سكنية سنويًا وإنشاء 80 ألف تعاونية ريفية.
الفكرة من حيث المبدأ تعكس رغبة الحكومة في تسريع التنمية وتخفيف الضغط عن الموازنة، لكن المخاوف تتركز على استقلالية البنك المركزي.
إذ يرى خبراء أن إدخال البنك في دائرة التمويل الحكومي بشكل مباشر قد يقوض مصداقيته ويضعف قدرته على التحكم في معدلات التضخم واستقرار العملة.
صحيفة “جاكرتا بوست” وصفت الخطوة بأنها “رهان خطير”، معتبرة أن نجاحها مرهون بقدرة الحكومة على ضبط الإنفاق ومنع الانزلاق نحو تمويل عجز مفرط. في المقابل، يرى أنصار الاتفاق أنه يمثل نموذجًا مبتكرًا لـ”شراكة بين السياسة المالية والنقدية” تعكس خصوصية الحالة الإندونيسية.
الزراعة والأمن الغذائي: مليون بقرة في خمس سنوات
في موازاة ذلك، أطلقت الحكومة خطة طموحة بقيمة 3 مليارات دولار تهدف إلى استيراد مليون بقرة حلوب خلال خمس سنوات. الهدف هو مضاعفة إنتاج الحليب المحلي لتلبية برنامج الوجبات المدرسية المجانية الذي يشمل 83 مليون طفل ونساء حوامل.
الفكرة تبدو جذابة من حيث الدعم الاجتماعي ومكافحة سوء التغذية، لكن التنفيذ يواجه تحديات معقدة. فحتى الآن لم يتم استيراد سوى نحو 11 ألف بقرة، وهو رقم بعيد جدًا عن الهدف السنوي البالغ 200 ألف.
كما أن بعض الشركات المشاركة في المشروع لا تملك خبرة في تربية المواشي، ما أثار تساؤلات حول الكفاءة والشفافية.
منظمات حقوق الحيوان أبدت قلقها أيضًا بشأن ظروف النقل والرعاية، محذّرة من أن التعجل في الاستيراد قد يؤدي إلى انتهاكات ومعاناة واسعة. ومع ذلك، يرى اقتصاديون أن المشروع قد يعزز الأمن الغذائي ويخلق فرص عمل ريفية إذا أُدير بفعالية.
السياسة والشرعية: اختبار مبكر للرئيس برابوو
كل هذه التطورات تضع الرئيس برابوو أمام اختبار صعب. فهو جاء إلى السلطة بوعود بإعادة الاستقرار وتعزيز النمو الاقتصادي، لكنه يجد نفسه الآن في مواجهة مباشرة مع الشارع الغاضب ومؤسسات الدولة المالية.
خصومه يرون أن استبدال وزراء بارزين مثل سري مولياني قد يضعف ثقة المستثمرين ويعطي انطباعًا بأن الحكومة تفتقر إلى رؤية استراتيجية. لكن أنصاره يردون بأن برابوو أثبت مرونة سياسية بقدرته على التكيف السريع وإعادة تشكيل فريقه وفقًا لمتغيرات الداخل.
المشهد الحالي يعكس صراعًا بين رغبة الحكومة في التغيير السريع وبين حاجة البلاد إلى استقرار مؤسسي طويل الأمد.
ومن الواضح أن الشهور المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت إندونيسيا ستنجح في عبور هذه المرحلة الانتقالية أم ستدخل في دوامة من الأزمات.
المجتمع بين الأمل والقلق
على المستوى الاجتماعي، يتأرجح المزاج العام بين الأمل والقلق. فهناك شريحة واسعة من الشباب ترى في خطط الحكومة للتعليم والصحة والزراعة خطوات في الاتجاه الصحيح.
لكن في المقابل، هناك مخاوف متزايدة من أن تتحول هذه الخطط إلى مشاريع غير مكتملة بسبب البيروقراطية والفساد، وهما مشكلتان مزمنتان في الدولة.
وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا محوريًا في تأجيج الاحتجاجات الأخيرة، حيث أصبحت منصة لتبادل الصور والفيديوهات من الشارع، كما ساهمت في تحويل قضية أفان كورنياوان إلى رمز وطني. هذا يؤكد أن أي حكومة في إندونيسيا اليوم لا تستطيع تجاهل القوة المتنامية للرأي العام الرقمي.
سيناريوهات مفتوحة
المستقبل القريب لإندونيسيا يبدو مفتوحًا على عدة سيناريوهات:
1. سيناريو الإصلاح الناجح: إذا تمكنت الحكومة من تحقيق نمو اقتصادي ملموس وتهدئة الشارع عبر إصلاحات شفافة، فقد تعزز شرعيتها وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستقرار.
2. سيناريو التوتر المستمر: في حال فشل السياسات الاقتصادية أو استمرت الامتيازات المثيرة للجدل، فقد تعود الاحتجاجات بزخم أكبر، ما يهدد الاستقرار السياسي.
3. سيناريو الانقسام المؤسسي: إذا تصاعدت الخلافات بين الحكومة والبنك المركزي أو حدثت أزمة مالية، فقد تجد البلاد نفسها في مواجهة أزمة ثقة قد تمتد إلى الأسواق الدولية.
إندونيسيا على مفترق طرق
إندونيسيا اليوم بلد يقف على مفترق طرق تاريخي. فالقرارات التي تُتخذ في هذه المرحلة ستحدد ملامح العقد المقبل. الاحتجاجات الأخيرة أظهرت أن الشارع لم يعد مستعدًا للسكوت على الامتيازات والنخبوية، فيما كشفت التغييرات الوزارية عن رغبة القيادة في التكيف مع الضغوط.
التحدي الحقيقي يكمن في تحويل الأزمات إلى فرص: من غضب الشارع إلى إصلاح سياسي، ومن الأعباء الاقتصادية إلى مشاريع تنموية مستدامة، ومن التجاذبات المؤسسية إلى شراكات فعالة. إذا نجحت الحكومة في ذلك.
فقد تصبح إندونيسيا نموذجًا لدولة آسيوية قادرة على التوازن بين الديمقراطية والتنمية. أما إذا فشلت، فإن خطر الانزلاق في دوامة الاضطراب يبقى قائمًا.