تشهد الساحة السياسية في هولندا تطورات غير مسبوقة بعد أن أعلن عدد من وزراء حكومة تصريف الأعمال، المنتمين إلى حزب “العقد الاجتماعي الجديد” (NSC)، استقالتهم بشكل جماعي مساء الجمعة، احتجاجًا على موقف الحكومة الهولندية من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. هذه الخطوة فتحت الباب واسعًا أمام تساؤلات حول مستقبل السياسة الخارجية الهولندية، وخصوصًا تجاه إسرائيل، التي ارتبطت بعلاقات وثيقة مع لاهاي لعقود طويلة.
شرارة الخلاف
بدأت الأزمة مع استقالة وزير الخارجية كاسبار فيلدكامب، الدبلوماسي السابق وسفير هولندا السابق في تل أبيب، الذي أعلن عجزه عن التوصل إلى “إجراءات ملموسة” رداً على ما وصفه بـ”الأفعال الإسرائيلية المدمرة” في غزة. وأكد أن محاولاته لفرض قيود على تل أبيب، مثل وقف بعض صادرات المكونات العسكرية وحظر دخول وزراء إسرائيليين متطرفين، قوبلت باعتراض متكرر من شركائه في الحكومة.
سرعان ما لحقت به موجة استقالات شملت وزير الشؤون الاجتماعية ونائب رئيس الوزراء إيدي فان هيوم، ووزيرة الداخلية جوديث أوترمارك، ووزيرة التعليم إيبو بروينز، ووزيرة الصحة دانييل يانسن، إضافة إلى عدد من وزراء الدولة، ما جعل الحكومة في وضع بالغ الهشاشة.
علاقة تاريخية معقدة
هولندا كانت دومًا من أكثر الدول الأوروبية قربًا من إسرائيل منذ اعترافها المبكر بها عام 1949. على مدى عقود، لعبت لاهاي دور “المدافع” عن تل أبيب داخل الاتحاد الأوروبي، مستندة إلى روابط اقتصادية وتجارية قوية، خصوصًا عبر ميناء روتردام الذي يُعد بوابة رئيسية للسلع الإسرائيلية إلى القارة الأوروبية. كما شهد التعاون العسكري تبادلًا في التكنولوجيا والمكونات البحرية والجوية.
لكن مع تصاعد الانتقادات الشعبية لسياسات الاحتلال، بدأت الحكومات الهولندية تخفف من حدة دعمها المطلق لإسرائيل، لتتبنى خطابًا أكثر توازنًا، خصوصًا تجاه ملف الاستيطان وانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية.
غزة تغيّر المعادلة
الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة وضعت الحكومة الهولندية أمام امتحان صعب. فبينما سعت أحزاب اليمين الليبرالي، وعلى رأسها حزب “الشعب من أجل الحرية والديمقراطية” (VVD)، إلى الإبقاء على خط الدعم التقليدي لإسرائيل، ضغطت أحزاب الوسط مثل NSC من أجل إجراءات أكثر صرامة، مثل فرض حظر أوسع على صادرات السلاح واعتراف عملي بمعاناة المدنيين في غزة.
استقالة الوزراء كشفت أن الخلاف لم يعد محصورًا في تفاصيل السياسة الخارجية، بل أصبح جزءًا من الصراع على هوية هولندا السياسية، بين تيار يصر على الحفاظ على “العلاقة الاستراتيجية” مع تل أبيب، وآخر يرى أن استمرار الدعم غير المشروط يتناقض مع قيم العدالة وحقوق الإنسان التي تدّعيها أوروبا.
حكومة بلا أغلبية
انسحاب حزب “العقد الاجتماعي الجديد” ترك الحكومة المؤقتة برصيد لا يتجاوز 31 مقعدًا من أصل 150 في البرلمان، وهو ما يعمّق الأزمة قبل انتخابات أكتوبر المقبل. رئيس الوزراء ديك شوف أعرب عن “أسفه” لهذه الاستقالات، لكنه أقر بصعوبة المرحلة المقبلة، وألغى بالفعل زيارة مقررة إلى كييف لمتابعة الوضع الأوكراني، في إشارة إلى أولوية الأزمة الداخلية.
أصداء أوروبية
الانقسام الهولندي يعكس صورة أوسع داخل أوروبا الغربية، حيث تميل دول مثل ألمانيا إلى استمرار دعمها القوي لإسرائيل لأسباب تاريخية، بينما تتبنى إسبانيا وأيرلندا مواقف أكثر نقدًا وتدعو لاعتراف جماعي بدولة فلسطين. هولندا تبدو الآن في نقطة تحول: هل تواصل إرثها التقليدي في دعم تل أبيب، أم تتحول إلى نموذج أوروبي يوازن بين الاعتبارات السياسية والإنسانية؟
مستقبل العلاقة
التقرير الأخير من “بلومبرغ” أشار إلى أن هولندا بالفعل علّقت ثلاثة تراخيص لتصدير مكونات بحرية إلى إسرائيل بسبب “خطر الاستخدام غير المرغوب فيه”، كما فرضت قيودًا على دخول شخصيات إسرائيلية متطرفة. هذه الخطوات، رغم محدوديتها، تمثل سابقة في سياسة خارجية كانت تُعرف بصلابتها في الدفاع عن إسرائيل.
لكن التحدي الحقيقي يكمن في الانتخابات المقبلة، التي قد تحدد ما إذا كانت لاهاي ستتجه إلى تغيير استراتيجي في تعاملها مع تل أبيب وغزة، أو ستبقى أسيرة التحالفات التقليدية وضغوط اللوبيات الداخلية.
استقالات الوزراء الهولنديين ليست مجرد أزمة حكومية عابرة، بل هي مؤشر على بداية تحول عميق في علاقة هولندا بإسرائيل. العلاقة التي بُنيت على تحالفات سياسية وتجارية قوية قد تجد نفسها مضطرة لمراجعة جذرية، خاصة مع تصاعد الغضب الشعبي من حرب غزة وازدياد الضغط الأخلاقي على الحكومات الأوروبية.