الأدب في دولة المرابطين لم يكن غائبًا ولا هامشيًا، وإن بدا في الظاهر أن هذا العصر قد خُصِّص للسيف أكثر من القلم، وللجهاد أكثر من البيان. لكن بين الرمال التي كانت تعصف من الصحراء الكبرى، وتحت ظلال الرايات التي رفرف بها الإسلام في المغرب والأندلس، كانت للروح مكانة، وللكلمة نصيب، وللشعر مقام.
خلفية تاريخية:
قامت دولة المرابطين في القرن الخامس الهجري (11م) على أكتاف دعوة دينية إصلاحية، قادها عبد الله بن ياسين، وانتقلت من ربوع الصحراء الموريتانية إلى المغرب الأقصى ثم امتدت إلى الأندلس، حتى غدت واحدة من أقوى دول الإسلام في الغرب. وقد امتزج في تكوين هذه الدولة البداوة الصحراوية بروح الفقه المالكي المتشدد، وكان لذلك تأثير كبير على الأدب فيها.
ملامح الأدب في عصر المرابطين:
- هيمنة الفقه والدين على المشهد الثقافي:
سيطر الفقهاء في عهد المرابطين على الحياة الثقافية والعلمية، وكان أغلبهم على مذهب الإمام مالك، يميلون إلى التحفظ والزهد في مظاهر الدنيا، وكان ذلك ينعكس على الأدب؛ إذ قلّ شعر اللهو والغزل، وازدهر شعر الزهد والمديح النبوي والحكمة، وانتشر النثر الوعظي والخطب الدينية.
- الشعر في حضرة التقوى:
لم يكن الشعر غائبًا، بل كان حاضرًا ولكن بنبرة وقورة. الشاعر في عصر المرابطين كان إما فقيهًا متأدبًا، أو أديبًا يحاول ألا يصطدم بسلطة العلماء. فظهرت قصائد تتغنى بالجهاد، وتمجّد الأمراء والملوك من آل المرابطين، كما ازدهرت الموشحات خصوصًا في الأندلس.
ومن أبرز شعراء ذلك العصر:
ابن حمديس الصقلي الذي لجأ إلى الأندلس ومدح المرابطين.
ابن عبدون الذي رثى دول الطوائف وسجّل تحولات الزمان.
ابن الخطيب وابن زيدون ظلا يُقرأ لهما كثيرًا، وإن لم يكونا من هذا العصر، لأن أدبهما كان حيًا في أذهان القراء والنقّاد.
- النثر: بين الخطابة والرسائل:
كان النثر في عصر المرابطين نثراً وظيفياً في معظمه؛ فانتشرت الخطابة السياسية والدينية، ورسائل الوزراء والقضاة. وقد امتاز هذا النثر بالجزالة والقوة، وتجنب الزخرفة المفرطة التي عرفها نثر المشرق. وكانت مجالس الحكام تضم خطباء وأدباء، مثل ابن رشد الجد وابن العربي المعافري، وكان لهم أثر في صقل الأسلوب الفقهي الأدبي.
بين الصحراء والحاضرة:
يبدو الأدب في دولة المرابطين كقافلة تسير في الصحراء، لا تحمل من الزاد إلا الضروري، لكنها تعرف طريقها جيدًا، وتدرك أن وراء كل كثيب حكاية، وأن لكل نجم في الليل بيتًا في القصيدة. لم يكن هذا العصر زمن الزخارف اللفظية، بل زمن المعنى، والرسالة، والالتزام.
قد لا يكون عصر المرابطين من عصور الأدب الذهبي، لكنه كان عصرًا مهّد لنهضة قادمة، وحفظ للغة العربية جلالها في مغرب الإسلام، وحافظ على سُمعتها نقية من عبث اللهو، وجعلها ترافق الفقه والعقيدة والجهاد. وما الأدب إلا مرآة العصر، وفي المرابطين، كانت المرآة مائلة قليلاً نحو الفقهاء، لكنها لم تكن مغطاة بالتراب.
أولاً: أبرز الأدباء والعلماء في دولة المرابطين
- أبو بكر بن العربي المعافري (468هـ – 543هـ)
فقيه وأديب ومتكلم أندلسي.
جمع بين الفقه المالكي والأدب، وكتب نثرًا رصينًا يتخلله السجع الحكيم.
من مؤلفاته:
العواصم من القواصم (في الدفاع عن الصحابة، وهو أدبي الطابع).
أحكام القرآن – وإن كان فقهيًا، لكنه زاخر بالأسلوب الأدبي الرفيع.
- ابن حمديس الصقلي (447–527هـ)
شاعر هاجر إلى الأندلس ومدح ملوك المرابطين.
امتاز شعره بالوجد والغربة والمدح الرقيق.
من شعره في مدح المرابطين:
نُصِرَ الدينُ إذ غدَوا خَلفَ رايتِهِ
يَحفِظونَ العُهدَ في البأساءِ والنِّعمِ
يا آلَ تاشفينَ إنّ المجدَ مُلكُكمُ
ما دامَ في الأرضِ حقٌّ غيرُ منقَسِمِ
- ابن بسام الشنتريني (ت. 542هـ)
صاحب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، وهو موسوعة أدبية نقدية.
جمع فيه سير وأدب شعراء ونثراء الأندلس والمغرب حتى عصر المرابطين.
- ابن رشد الجد (520هـ – 595هـ)
فقيه مالكي كبير في أواخر دولة المرابطين، له رسائل وقصص فقهية تحمل طابعًا أدبيًا وإن لم تكن أدبية خالصة.
ثانيًا: أبرز المؤلفات الأدبية والنقدية
الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة – ابن بسام
مرآة أدبية زاخرة، نقلت لنا أدب العصر الأندلسي والمرابطي.
تحتوي على مقامات، شعر، رسائل، وخطب.
سجل فيها ابن بسام سيرة أدباء الأندلس وأشعارهم.
البيان المغرب في أخبار المغرب – ابن عذاري المراكشي
ليس كتابًا أدبيًا بالمعنى الصريح، لكنه يحوي نصوصًا أدبية وتاريخية من عهد المرابطين.
مفاخر البربر – لمؤلف مجهول
نص مهم في أدب الفخر القومي في زمن المرابطين، يبيّن اعتزاز الأمازيغ بأنفسهم وثقافتهم.
ثالثًا: خصائص الشعر في عصر المرابطين
مدح الملوك والأمراء، لا سيما يوسف بن تاشفين وأولاده.
الزهد والحكمة: تأثير الفقهاء واضح.
الوصف والحنين: خاصة في شعر المهجّرين كابن حمديس.
الموشحات: استمر ازدهارها في الأندلس رغم سيطرة الفقه.
رابعًا: نماذج شعرية من العصر
ابن حمديس في الغربة:
أيا موطنًا ما زلتُ فيك مشوقًا
ولو كنتُ من آلِ الشقاءِ هجرتُك
تركتُك لا عن مللٍ أو ملالةٍ
ولكنني أُبكي الزمانَ وفُجعتك
شعر الجهاد (مجهول):
خُذوها سيوفَ اللهِ لا تُبقي العِدا
ودوسوا بدين الحقِّ تيجانَهم دُوسا
فها قد أتى عصرُ الحنيفية التي
تُذِلُّ بعونِ اللهِ كلَّ نَكُوسا
خامسًا: دور الأدب في المجتمع المرابطي
كان وسيلة للدعوة والتأثير؛ فالخطب والرسائل كانت أدبية في صياغتها، دعوية في مضمونها.
استخدم الشعر في توثيق الجهاد ضد الصليبيين، خاصة بعد الزلاقة.
الفقهاء استخدموا البلاغة في تعليم العامة ونصح الأمراء.
في المدن الكبرى مثل مراكش وفاس وقرطبة، كانت هناك حلقات أدب تقام، وإن كانت بظل الفقه.
خلاصة:
الأدب في دولة المرابطين كان مقيدًا بسياج الورع، لكنه ظل حيًا. كتب الشعراء ما استطاعوا، وسكبت الأقلام ماء الحكمة على الصفحات. وكان الأدب آنذاك كغيمٍ صيفي، قليل لكنه يُثمر، خفيف لكنه يروي.
————-
يسري الخطيب