طفي خطوة استباقية تهدف إلى مواجهة التطورات السريعة والمستقبلية لتقنيات الذكاء الاصطناعي، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة الثلاثاء عن إنشاء هيئة استشارية دولية مستقلة للذكاء الاصطناعي.
هذا القرار يعكس إدراك الدول الأعضاء للأثر العميق الذي تتركه هذه التقنية على جميع مجالات الحياة، بدءًا من الاقتصاد والسياسة وصولاً إلى الحقوق الفردية والحريات العامة. فبينما.
يرى كثيرون في الذكاء الاصطناعي أداة لتحقيق النمو والابتكار، يثير آخرون مخاوف تتعلق بالتحكم، والخصوصية، وحتى تهديد أسس الديمقراطية في العالم.
تأتي هذه المبادرة بعد توافق الدول الأعضاء في سبتمبر/أيلول الماضي على تشكيل لجنة خبراء من العلماء والباحثين لتسهيل الحوار بين الحكومات بشأن الذكاء الاصطناعي.
وقد تمثل الهدف الأساسي لهذه اللجنة في توفير منصة علمية موضوعية تعتمد على البيانات والأبحاث، بعيدًا عن الحسابات السياسية أو المصالح الاقتصادية الضيقة، لضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة تخدم الإنسانية جمعاء.
وفي هذا السياق، نص القرار الأخير للجمعية العامة على إنشاء “الهيئة العلمية الدولية المستقلة المعنية بالذكاء الاصطناعي”،
والتي ستكون مسؤولة عن جمع وتقييم وتحليل الأبحاث والدراسات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، سواء من حيث الفرص أو المخاطر، وأثرها المحتمل على المجتمعات والدول.
ومن المتوقع أن تلعب هذه الهيئة دورًا محوريًا في تزويد الحكومات بالأدوات العلمية اللازمة لاتخاذ قرارات رشيدة بشأن تبني واستخدام هذه التقنية، بما يوازن بين الابتكار والمخاطر.
دور الخبراء
تتألف الهيئة من 40 عضوًا من أبرز العلماء والباحثين والخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي من مختلف دول العالم، ويقع على عاتقهم مسؤولية تقديم تقييمات علمية قائمة على الأدلة.
وتشمل هذه التقييمات تحليل الاتجاهات الحديثة في تطوير الأنظمة الذكية، وفهم آثارها الاجتماعية والاقتصادية، وتقديم توصيات عملية لصناع القرار حول السياسات التنظيمية والأطر القانونية الملائمة.
كما سيشارك الخبراء في الهيئة في تنظيم “حوار عالمي سنوي” يجمع الحكومات والجهات المعنية، حيث ستتاح الفرصة لتبادل الخبرات وأفضل الممارسات والدروس المستفادة في مختلف الدول.
ويهدف هذا الحوار إلى خلق منصة شفافة وديمقراطية لمناقشة كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق مسؤولة وآمنة، مع مراعاة التنوع الثقافي والاجتماعي للدول المختلفة.
الأهداف الاستراتيجية للهيئة
تسعى الهيئة الجديدة لتحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية على مستوى العالم، أهمها:
1. تقييم المخاطر والفرص: تقديم تقييم شامل للتحديات والفرص المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك المخاطر المتعلقة بالخصوصية، وأمن البيانات، وتأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، وأخلاقيات استخدام التقنية.
2. تعزيز التعاون الدولي: خلق منصة دولية لتبادل المعرفة والتجارب بين الحكومات والمؤسسات الأكاديمية والشركات التكنولوجية، بما يضمن تبني سياسات متسقة وفعّالة.
3. تطوير سياسات حوكمة مستدامة: مساعدة الدول على وضع سياسات تنظيمية مرنة وموثوقة، توازن بين الابتكار وحماية الحقوق الأساسية للمواطنين.
4. دعم أهداف التنمية المستدامة: استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، من خلال تسريع الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية الذكية والخدمات العامة.
الجدوى العالمية للهيئة
تتجلى الجدوى الحقيقية لهذه الهيئة في قدرتها على تحويل النقاشات النظرية حول الذكاء الاصطناعي إلى سياسات عملية قابلة للتطبيق على مستوى الدول.
فعلى سبيل المثال، يساعد تقييم الخبراء للحالات التجريبية حول الذكاء الاصطناعي في الحكومات والشركات على تحديد المخاطر المحتملة قبل حدوثها، وبالتالي تقليل الأضرار المحتملة على الاقتصاد والمجتمع.
إضافة إلى ذلك، يمثل الحوار العالمي السنوي فرصة لتقليل فجوة الفهم بين الدول المتقدمة تقنيًا والدول النامية، من خلال نقل الخبرات وتقديم توصيات عملية تساعد على توحيد المعايير والممارسات العالمية.
هذه المقاربة تتيح أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة لتحقيق النمو الشامل، وليس سببًا في تعميق الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الدول.
كما تؤكد هذه المبادرة على دور الأمم المتحدة كمنصة محورية لضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي قوة إيجابية تخدم البشرية. فالتنظيم الدولي لمجال الذكاء الاصطناعي يهدف إلى منع الاستخدامات الضارة للتقنية، مثل الاستغلال غير الأخلاقي للبيانات، أو تطوير أنظمة قد تهدد الحقوق الأساسية للإنسان.
وبالتالي، فإن وجود هيئة علمية مستقلة يعزز من مصداقية الجهود الدولية ويؤكد الالتزام بحوكمة عادلة ومسؤولة.
المراحل القادمة والتوقعات
بعد إعلان إنشاء الهيئة، سيباشر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عملية اختيار الأعضاء المؤهلين لفترة تمتد ثلاث سنوات، مع مراعاة التوازن الجغرافي والتخصصي.
ومن المتوقع أن تبدأ أولى جلسات الحوار العالمي في جنيف العام المقبل ضمن قمة عالمية مخصصة للذكاء الاصطناعي. هذه القمة ستشهد عرض التقييمات العلمية، ومناقشة السياسات التنظيمية، ووضع توصيات استراتيجية لدعم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول ومستدام.
وقد أشارت سفيرة كوستاريكا، ماريتزا تشان فالفيردي، التي أشرفت على المناقشات المؤدية إلى القرار، إلى أن التطورات في الذكاء الاصطناعي تحدث بوتيرة ونطاق واسع، بما يجعل تأثيرها ملموسًا على جميع الدول.
وأكدت أن القرار يعكس الدور الحيوي للأمم المتحدة في ضمان أن يخدم الذكاء الاصطناعي البشرية، ويعمل على تعزيز التنمية الشاملة وحماية حقوق الإنسان.
أهمية القرار للسياسات الوطنية والدولية
يمثل هذا القرار فرصة للدول لوضع استراتيجيات وطنية واضحة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي، تعتمد على تقييم علمي دقيق.
فهو يوفر أساسًا لتطوير القوانين والتشريعات المتعلقة باستخدام البيانات، وحماية الخصوصية، وضمان الشفافية في القرارات التي تتخذها الأنظمة الذكية.
كما يساعد صناع القرار على تبني سياسات داعمة للابتكار دون المخاطرة بخلق آثار سلبية على المجتمع.
على الصعيد الدولي، تمثل الهيئة آلية لتقليل المخاطر العابرة للحدود المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، مثل الأمن السيبراني والتوظيف التكنولوجي، وتعزيز التعاون بين الدول في مجال البحث والتطوير.
وهذا بدوره يساهم في خلق بيئة عالمية أكثر أمانًا واستقرارًا لاستخدام الذكاء الاصطناعي.
والخلاصة إن إنشاء الهيئة العلمية الدولية المستقلة للذكاء الاصطناعي خطوة تاريخية تعكس وعي المجتمع الدولي بأهمية تنظيم استخدام هذه التقنية الثورية.
فهي تجمع بين العلم والسياسة لتوفير إطار مستدام وآمن، يضمن أن يظل الذكاء الاصطناعي أداة لتحقيق التنمية المستدامة، ودعم حقوق الإنسان، وتعزيز التعاون الدولي.
وفي ظل التحديات المتزايدة المرتبطة بتكنولوجيا المستقبل، يأتي هذا القرار ليؤكد الدور المحوري للأمم المتحدة في قيادة الحوار العالمي حول الذكاء الاصطناعي، وتحويله من أداة محتملة للفرص والمخاطر إلى قوة إيجابية تعود بالنفع على الإنسانية جمعاء.