“الأموات”.. قصة قصيرة لـ “محمّد الشرقاوي”
أمام المكتب يقف ثلاثة من كبار الموظفين تفصل بينهم مسافات متساوية، الوجوه للأمام، الأجسام ممشوقة، الأيادي على الأجناب في وضع الانتباه، تمر الدقائق، ينظر كل منهم إلى هيئته، يمرر يديه على ملابسه لإعادة تنسيقها، يخرج منديلا ورقيا ثم يقوم بإعادة مسح حذائه والتأكد من ربطه جيدا، ثم يرفع كل منهم يديه ناظرا إلى أعلى، يتمتم بالدعاء وعلامات الوجه تفصح عن انتظار أمر مهم وخطير، يشير لهم السكرتير باستعداد أولهم للدخول فيعيد كل منهم النظر مرة أخرى إلى مظهره ثم يتقدم الأول.
الحجرة واسعة يدخلها نور الشمس من نافذتين متجاورتين، سبعة مصابيح مضاءة كلها تنتشر في أنحاء السقف الذي تزينه الزخارف الفنية، جهاز التكييف يجعل الطقس بالداخل يختلف تماما عنه بالخارج، الجدران مكتظة بصور وشهادات التقدير في براويز قيمة، سجادتان رائعتان يغطيان الأرض إلا من مساحة بسيطة بجوار الجدران، على المكتب يقف صامدا جهاز الكمبيوتر وحوله بعض الأوراق والأقلام والهاتف الأرضي، أما الثلاجة فتستقر على يمين المكتب.
يدخل الشخص الأول مسرعا مبتهجا وبانحناءة بسيطة يلقي السلام مادا يده لكي يصافح السيد المدير ولكن قبل أن يمد المدير يده يرن الهاتف الأرضي بالمكتب، يلتقط المدير السماعة مبديا شكره لمحدّثه وأنه سيظل رهن إشارته في كل ما يريد ذاكرا له فضائله وإنجازاته المتعددة، يدور بكرسيه يمينا ويسارا ثم يعلن عن حُسن حظه للعمل تحت إدارة هذا المفكر العظيم والمخطط الرائع، ينهي حديثه ثم يلتفت لهذا الموظف الذي ما زال واقفا مادا يده للمصافحة ومن حوله عدد كبير من الكراسي والمقاعد الفخمة التي لا يجلس عليها أحد لكنه ظل واقفا.
يمد المدير يده للمصافحة مبديا إعجابه بالتزام الموظف بتقاليد التعامل لكنه يلفت نظره إلى إعادة النظر في هيئته وملابسه،
الموظف : سمعا وطاعة سيدي المدير، لقد جئت لأعلن لسيادتكم بالدليل مدى محبتي والتزامي.
المدير: وما هو دليلك ؟
الموظف: لقد رن هاتفي المحمول مساء أمس وكان الطالب غير معروف لي، فأخذت قراري على الفور بعدم الرد إلا بعد موافقة سيادتكم وسيكون هذا سلوكي الدائم في ظل إدارة سيادتكم.
يبتسم له المدير ابتسامة متواضعة ثم يشير له بيده فينصرف الرجل ولسانه يلهث بالدعاء لمديره واصفا إياه بكل صفات الحكمة والعبقرية.
يشير السكرتير بالدخول للشخص الثاني الذي ظل يذاكر ويحفظ ما سيقوله، يدخل مسرعا ومن مسافة تفصله عن المكتب يلقي السلام بانحناءة أكبر قليلا مما قام بها زميله السابق.
المدير: أهلا بك أيها المخلص.
الموظف: عبدك يا سيدي المدير، سأقص أمام حضرتك ما حدث بالأمس لأثبت مدى إخلاصي.
المدير: ما الذي حدث ؟
الموظف: لقد طلبت مني زوجتي بالأمس أن تزور والدتها التي تم حجزها بإحدى المستشفيات، ولكني لم أتخذ قرارا حتى أعود لسيادتكم في تلك الأمور المصيرية.
المدير: سأخبرك عند موعد انتهاء العمل .
يهلل الموظف داعيا له بالنصر والترقي لأعلى وأعلى ثم يغادر بعد أن يعرض خدماته ليلا ونهارا.
يستجمع الثالث قواه ليستعد للدخول فتأتيه الإشارة من السكرتير، وقبل أن يخطو إلى داخل المكتب يعلو صوته بالدعاء للسيد المدير بالنجاح والفلاح، ينتبه المدير لصوته فيشير له أن يسرع ويلخص ما جاء لأجله.
الموظف: أمر خطير يا سيدي.
المدير: ما هو ؟
الموظف: لقد حدثتني نفسي بالنوم في حجرة نومي بعد أن تبادلت مع زوجتي عدة ابتسامات غابت منذ زمن وتبعها حديث هامس يملؤه الود والحنان، لكنني تراجعت في اللحظة الحاسمة عندما أدركت مدى الجرم الذي سأقع فيه إن لم أستشر سيادتكم.
المدير: سأخبرك بقراري بعد أسبوع، فهذا الأمر يحتاج لدراسة جيدة، أليس كذلك؟
الموظف: بلى سيدي، وأنا سأظل منتظرا.
يشير له المدير بالخروج فيهرول داعيا له بالرفعة والنصر.
يتأمل السكرتير كل ما حدث سائلا نفسه: لماذا لم يجرؤ أحد على مناقشته في خسائر وديون المؤسسة؟! لماذا لا يقدمون أفكارا للنهوض بها؟! لكني لن أتركهم يتقربون له أكثر مني، ثم يتقدم نحو المدير مقبلا يديه، معلنا نجاحه في الإدارة وموهبته الفذة في العمل راجيا منه أن يظل هكذا، وأن يعمّ سلوك الموظفين الثلاثة بين الجميع حتى يحفظ مكانته وهيبته ويظل في الصدارة.