تُعد ثورة 1919 المصرية واحدة من أعظم اللحظات في تاريخ الشعوب العربية، ليس فقط لأنها طالبت بالاستقلال وطرد الاحتلال البريطاني، وإنما لأنها شكّلت أول انتفاضة شعبية شاملة، جمعت بين المسلمين والمسيحيين، الرجال والنساء، العمال والفلاحين، المثقفين ورجال الدين، في مشهد نادر الحدوث في التاريخ.
ومن بين عشرات الكتب التي تناولت هذه الثورة، يبرز كتاب “الأيام الحمراء”: مذكرات الشيخ عبد الوهاب النجار» باعتباره شهادة من الداخل، ووثيقة كتبها عالم أزهري بارز عاش الأحداث لحظة بلحظة، وسجل تفاصيلها بوعي ديني ووطني، ليترك لنا مرآة صادقة تعكس كيف تفاعل الأزهر والشعب مع الاحتلال، وكيف تحوّل الجامع الأزهر إلى برلمان الشعب وميدان الثورة.
فكرة الكتاب ومضمونه
كتاب «الأيام الحمراء» ليس مؤلفًا أكاديميًا باردًا، ولا دراسة سياسية جافة، بل هو سرد يوميات ثورية عاشها الشيخ النجار بنفسه. سجّل فيها اللحظات الأولى لانفجار الثورة، الهتافات التي دوّت في أروقة الأزهر، الجموع التي خرجت إلى الشوارع، النساء اللاتي ظهرن لأول مرة في المظاهرات، والشهداء الذين سقطوا برصاص الاحتلال.
المذكرات ترصد:
1- مقدمات الثورة: كيف تراكَم الغضب الشعبي عقب الحرب العالمية الأولى، ورفض المصريين لهيمنة بريطانيا.
2- اندلاع المظاهرات: خروج الجماهير من الأزهر والجامعة والشوارع الشعبية.
3- الأزهر مركز الثورة: خطب العلماء، وبيانات الطلاب، واعتبار الأزهر بيت الأمة.
4- قمع الاحتلال: الرصاص في الشوارع، الاعتقالات، ممارسات الجيش البريطاني.
5- المرأة والثورة: الدور غير المسبوق للنساء في الاحتجاجات.
6- النتائج السياسية: الضغط الشعبي الذي أدى لاحقًا إلى دستور 1923.
أهمية الكتاب
تكمن أهمية «الأيام الحمراء» في أنه:
وثيقة حيّة كُتبت في لحظة الحدث، لا بعد سنوات طويلة.
يُبرز دور الأزهر كفاعل رئيسي، لا مجرد شاهد صامت.
يمزج بين الديني والوطني، ليظهر أن الاستقلال لم يكن مجرد مطلب سياسي، بل فريضة أخلاقية ودينية.
ينقل تفاصيل الشارع: أصوات الهتافات، صور الشهداء، دموع النساء، وحماس الطلاب.
أبرز المقولات والمشاهد
وصف المظاهرات: «كان الناس كالطوفان، يهتفون للحرية، ويكسرون قيود الخوف».
عن الأزهر: «الأزهر كان بيت الأمة، ومنه انطلقت صيحات الاستقلال».
عن المرأة: «خرجت النساء لأول مرة، محجبات مرفوعات الرؤوس، يهتفن ضد الاحتلال، فكنّ كالرجل بل فُقن بعض الرجال».
عن القمع: «أطلق الجنود الرصاص على العزّل، فارتفعت أرواح شهداء، وصار الدم وقودًا جديدًا للحركة».
سيرة المؤلف
الشيخ عبد الوهاب النجار (1867 – 1940):
أحد كبار علماء الأزهر في مطلع القرن العشرين.
جمع بين العلم الشرعي والفكر الإصلاحي.
كتب في التاريخ الإسلامي بأسلوب قصصي، مثل كتابه الشهير «قصص الأنبياء».
كان مؤمنًا بأن الدين لا ينفصل عن قضايا الوطن.
شارك في الثورة بخطبه وكتاباته، ثم سجّل تجربته في «الأيام الحمراء».
الأزهر والثورة
الكتاب يوضح أن الأزهر لم يكن مجرد مسجد وجامعة، بل كان قلب الثورة النابض.
الطلاب والعلماء نظموا المظاهرات.
الفتاوى والخطب دعمت مقاومة الاحتلال.
الاجتماعات الشعبية كانت تُعقد في رحاب الأزهر.
لقد قدّم الأزهر نموذجًا فريدًا للتحالف بين الدين والسياسة في خدمة الحرية.
البُعد السياسي والفكري
لا يكتفي الشيخ النجار بسرد الأحداث، بل يلمّح إلى معاني أعمق:
الحرية واجب ديني: مقاومة الظلم جزء من الإيمان.
الوحدة الوطنية: الثورة جمعت المسلمين والأقباط في مشهد غير مسبوق.
المرأة والمجتمع: فتح الثورة الباب أمام دور نسوي جديد في الحياة العامة.
الهوية المصرية: مواجهة الاحتلال كانت دفاعًا عن الكرامة والهوية.
مقارنة مع كتب أخرى عن ثورة 1919
1- مذكرات سعد زغلول
كتبها الزعيم سعد زغلول نفسه.
تركّز على الجانب السياسي والمفاوضات مع بريطانيا.
أسلوبها أقرب إلى السجل السياسي الرسمي.
بينما «الأيام الجرداء» تهتم بالشارع والجماهير، وتنقل صورة حيّة من قلب الأزهر.
2- النيل يكتب تاريخه بالدم (لعبد الرحمن الرافعي)
عمل تاريخي ضخم يوثق أحداث الثورة من منظور المؤرخ الوطني.
يهتم بالتحليل السياسي والوقائع الكلية.
أما النجار فينقل التفاصيل اليومية الصغيرة: الهتاف، الرصاص، دموع الأمهات.
3- تاريخ الحركة الوطنية المصرية (1882 – 1921) لعبد الرحمن الرافعي
يضع الثورة في سياق أطول يمتد منذ الاحتلال البريطاني وحتى بدايات القرن العشرين.
يقدم تحليلاً فكريًا عميقًا.
بينما مذكرات النجار تقدم شهادة وجدانية مباشرة، أقرب إلى «الكاميرا التي التقطت المشهد».
4- أدب الثورة 1919 (لعدد من الأدباء مثل حافظ إبراهيم والعقاد)
يعكس الثورة شعريًا وأدبيًا.
في حين أن «الأيام الحمراء» توثقها نثريًا وبأسلوب شاهد عيان.
إذن، يمكن القول إن مذكرات الشيخ النجار تكمل الصورة: فهي تضيف البعد الديني–الشعبي الذي قد لا يظهر بوضوح في كتب السياسيين والمؤرخين.
«الأيام الحمراء» ليست مجرد كتاب عن الماضي، بل درس حاضر. فهي تقول للأجيال الجديدة إن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وإن الأزهر والشعب كانا معًا في طليعة الكفاح.
وإذا كانت مذكرات سعد زغلول قد قدّمت رؤية الزعيم، وكتب عبد الرحمن الرافعي قد رسمت الصورة السياسية، فإن الشيخ عبد الوهاب النجار قدّم نبض الجماهير وروح الأزهر، وجعل من مذكراته وثيقة وطنية لا غنى عنها.
إعادة قراءة هذا الكتاب اليوم تعني استعادة لحظة مصرية جامعة، لحظة قالت فيها الأمة كلها: لا للاستعمار، نعم للحرية.
