الإمام عبد المجيد سليم.. شيخ الأزهر الذي تحدّى المَلِك ولم يعترف بضباط يوليو
الإمام الدكتور عبد المجيد سليم
أحد شموس الإسلام المضيئة، في سماء الزمان، فهو الرجل الصلد، والإمام العلّامة، والقاضي الشجاع، والمسؤول الذي لم تجرفه السياسة ولعبة التوازنات، فقد كان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولذا كانت صداماته التاريخية مع الملك، ثم ضباط يوليو 1952م، ولم يتنازل، أو ينحني للريح، وأعلن رفضه لضباط يوليو وقراراتهم، ورأيه في البنوك والمعازف، والاحتفال بالمولد النبوي، ولتلك الأسباب؛ يسقطون هذا الإمام الحُر من الذاكرة، ولا يذكروه إلا في بضع كلمات إنشائية، في المواقع والصحف الرسمية، ومواقع الأزهر والإفتاء، أما مواقع العلمانيين وكتبهم، فلا تراه إلا سلفيا متشددا، معارضا لكل الحكام، بل أن البوابة الإليكترونية المختصة بالهجوم على الإسلاميين، تضع الشيخ العلامة الدكتور عبد المجيد سليم في قائمة (عمائم الإرهاب)!!!
الميلاد: 13 أكتوبر 1882م، قرية “ميت شهالة”، التابعة لـ مدينة الشهداء، محافظة المنوفية (مصر)
الوفاة: 7 أكتوبر 1954م، القاهرة.
– حفظ القرآن وجوّده، صغيرا، ثم التحق بالأزهر، وكان عبقريا مثقفا، متفقها
– نال شهادة العالمية من الدرجة الأولى سنة 1908م،
اشتغل الشيخ بالتدريس في المعاهد الدينية ومدرسة القضاء الشرعي، حيث كان يدرّس للطلاب مادتَيْ الفقه وأصوله، ثم تولّى القضاء الشرعي قبل أن يصبح مفتيًا للبلاد، وفاز بعضوية جماعة كبار العلماء، ثم أصبح وكيلًا لها، قبل أن يعهد إليه بالإشراف على الدراسات العليا بالأزهر ورئاسة لجنة الفتوى.
القاضي الشجاع
من قضائه الشجاع (قضية وقف) ضد الملك فؤاد ملك مصر، وقد رفعت القضية لإقصاء الملك عن هذه النظارة للوقف، وقال المدعي في دعواه: إنه لا يجوز للملك أن ينظر وقفًا بشخصه؛ لأنه صاحب وضع دستوري لا يجيز له القيام بأعمال مثل نظارة الوقف، فهو يدير أملاكه بنفسه أو بأجهزته الخاصة الملكية، أما كونه ناظرًا للوقف فهذا يجعله محل المساءلة إذا أخطأ، والوقف تتعلق به حقوق خيرية كثيرة، منها ما يصيب الأشخاص، ومنها ما يصيب الهيئات، وكل صاحب حق له وجهة نظره في قدر ما يؤدي إليه ريع الوقف، فإذا وجد خطأ كان من واجبه أن يشير إليه وأن يقتضيه، وهذا يجعل موقف الملك حرجًا، فإما أن تضيع حقوق الموقوف عليهم، وإما أن تضيع هيبة ولي الأمر.
وعلى الناحية الأخرى من الدعوى كان محامي الملك فؤاد يدافع عن نظارة الملك للوقف، ويطالب برفض الدعوى، لكن القضية ينظرها قاض شجاع، لا يتحرج من الحكم بالحق، فقضى بعزل الملك فؤاد عن نظارة الوقف، وتم تنفيذ الحكم.
وبرغم هذا الحُكم الشجاع، فإن الملك فؤاد عندما عُرض عليه تعيين الشيخ سليم في منصب الإفتاء وافق على الفور، ولم يحاول الانتقام منه، وإنما أصدر المرسوم الملكي بالتعيين، وبالرغم من أنه لم يكن عضوًا في المحكمة الشرعية العليا، وكان التقليد أن يُختار المفتي من بين أعضائها، إن لم يكن رئيسها.
مفتي مصر
في 2 من ذي الحجة 1346هـ الموافق 22 مايو 1928م، تم تعيينه مفتيا للديار المصرية، وقضى الشيخ عبد المجيد سليم في منصب المفتي قرابة عشرين عامًا، وهي أكبر مدة قضاها عالم من علمائنا في منصب المفتي، وقد كان تمسكه بالحق ودقته في الفتوى وراء هذه الفترة الطويلة في المنصب، وبلغ إجمالي القضايا التي أفتي فيها 15792 فتوى، وهي ثروة فقهية عالية القيمة.
وشجاعة الشيخ عبد المجيد في فتواه، لم تكن وليدة شغله منصب الإفتاء، وإنما كانت جزءًا من شخصيته، حتى وهو طالب في المعاهد الأزهرية، ثم وهو قاض شرعي بعد تخرجه من مدرسة القضاء الشرعي.
شيخ الأزهر
وفي السادس والعشرين من ذي الحجة سنة 1369هـ المواقف 8 أكتوبر عام 1950م صدر قرار تعيينه شيخًا للأزهر، حيث كان الإمام الثالث والثلاثين في تاريخ الأزهر.
عُزِلَ من منصبه في 4 سبتمبر سنة 1951م، لاعتراضه على الحكومة عندما خفّضت من ميزانية الأزه، ثم تولى المشيخة للمرة الثانية في 10 فبراير سنة 1952م، واستقال في 17 سبتمبر سنة 1952م، بعد اصطدامه بضباط الثورة
الإمام الجسور وصدامه المستمر مع الحكام:
– كان الشيخ عبد المجيد، صَلبا في الحق، حُرًّا، لا يخشى في الحق لَومة لائم، لا يهادن، ولا يمسك العصا من المنتصف، ولا يميل مع ريح السياسة حيث مالت، كما يفعل رجال الدين الآن، ولذا اتهموه بالتشدد والتعصب،
– وقفَ في وجه المَلِك، واعترض على سياسة ضباط يوليو..
عندما كان مفتيًا للديار المصرية وصل إليه سؤال من إحدى المجلات عن مدى شرعية إقامة الحفلات الراقصة في قصور الكبار، وكان الملك فاروق يحضر تلك الحفلات الراقصة، كما كان يتردد على “الأوبرج” بشارع الهرم، فيراقص بعض السيدات الأجنبيات.
وكان الملك قد أقام حفلًا راقصًا في قصر عابدين،
وأفتى الشيخ عبد المجيد بحرمة ذلك، وأن تلك الحفلات حرام
ونشرت مجلة “آخر ساعة” العدد الصادر في يوم 29 أغسطس 1951م، الفتوى مؤيّدة بالأدلة الشرعية، وحدثت الأزمة بين الملك والمفتي، وصمم الملك على الانتقام من المفتي الذي كانت فتواه سببًا في (تهكّم) الناس على تصرفات الملك، وإحراجه، وتعرية ما يقوم به أمام الجميع، فتمت دعوة الشيخ عبد المجيد لحضور صلاة الجمعة مع الملك بقصر عابدين، وفي نفس مكان الحفل الراقص، وأدركَ الشيخ بفراسته الإيمانية أن هناك مكيدة، فذهب الشيخ الداهية وجلس في المكان المخصص له، وبعد انتهاء الصلاة، وقفَ كبار المصلين لمصافحة الملك..ولكن الشيخ سليم فهم اللعبة، وأن الملك جاء به ليتجاهله، ويرفض مصافحته أمام الناس، ولذا رفض أن يمد يده لمصافحة الملك، وانسحب من المكان، وكانت نتيجة هذا الموقف وتداعياته أن أصدر الملك قرارًا بإقالة الشيخ من المشيخة..
ضد الملك وضد ضباط يوليو 1952م
– اصطدم الشيخ بضباط يوليو 1952م، ورفضّ تدخلهم في شؤون الأزهر، بعد شهرين فقط من قيام الثورة، وتقدم باستقالته، وأصر على موقفه .. فصدرت الأوامر للصحف بمهاجمة الشيخ، وظلت الصحف المصرية تنعق، وتنهش في لحم الشيخ الحُر
– كان الشيخ ضد القوانين التي أصدرتها حكومات الثورة الأولى، حيث أصدرت عددًا من القوانين كان هدفها إبطال نظام الوقف، وبدأت بالقانون رقم 180 لسنة 1952م، الذي نص على حل الأوقاف الأهلية وتوزيع أصولها علي المستحقين (كل واحد بحسب نسبة ما يستحقه من الريع)
– هاجم الشيخ قانون الإصلاح الزراعي، وأعلن عدم مشروعية ذلك القانون.. وقال: (إذا كانت الحكومة تريد إنعاش الفقراء فليكن ذلك إما برفع قيمة الضرائب، أو باستحداث سياسات جديدة تفتح استثمارات جديدة تستوعب البطالة والفقر، أما مصادرة «الأصول» من أصحابها فذلك عمل غير مشروع)
وكان ضباط الثورة فى تعجّل وإصرار، فأصدروا قانون الإصلاح الزراعي رغم عدم وجود برلمان، ورغم عدم موافقة الأزهر، واعتراض شيخ الأزهر الشيخ عبد المجيد سليم الذي قدّمَ استقالته..
– كان الشيخ عبد المجيد يرى أن هؤلاء الضباط غير مؤهلين للقيادة، وإدارة شؤون مصر..
رأيه في فوائد البنوك وآلات العزف
– كانت للشيخ آراء واضحة مباشرة في فوائد البنوك، والسندات، وقال إنها الربا بعينه،
وعن العمل في البنوك أفتى بحرمة ذلك، وقال: (الربا محرّمٌ شرعًا بنص الكتاب والسُّنة وبإجماع المسلمين، ومباشرة الأعمال التي تتعلق بالربا من كتابة وغيرها إعانة على ارتكاب المحرّم، وكل ما كان كذلك فهو محرّم شرعًا)
هاجم الشيخ احتفالات المولد النبوي، وقال إنها بدعة ضلالة، كما هاجم زوار الأضرحة، ووصفهم بالجهلة، ووصف النذور لتلك الأضرحة بأنها حرام
كما حرَّمَ الشيخ جميع آلات العزف
كما أفتى بكفر من يسب الدين، وقال إنه كافر مرتد عن الإسلام
المذاهب الأربعة وغيرها
لم يقتصر فضله على العلم في مصر، ولكنه تجاوز ذلك إلى آفاق الإسلام وإلى كل الطوائف، ومن أقواله – رحمه الله – في ذلك: (وقد جريت طول مدة قيامي بالإفتاء في الحكومة والأزهر – وهي أكثر من عشرين سنة – على تلقي المذاهب الإسلامية ولو من غير الأربعة المشهورة بالقبول ما دام دليلها عندي واضحًا وبرهانها لدي راجحًا مع أنني حنفي المذهب كما جريت وجرى غيري من العلماء على مثل ذلك فيما اشتركنا في وضعه أو الإفتاء عليه من قوانين الأحوال الشخصية في مصر، مع أن المذهب الرسمي فيها هو المذهب الحنفي، وعلى هذه الطريقة نفسها تسير (لجنة الفتوى بالأزهر) التي أتشرف برياستها، وهي تضم طائفة من علماء المذاهب الأربعة، فإذا كان الله قد برأ المسلمين من هذه النعرة المذهبية التي كانت تسيطر عليهم إلى عهد قريب في أمر الفقه الإسلامي، فإنا لنرجو أن يزيل ما بقي بين طوائف المسلمين من فرقة ونزاع في الأمور التي يقوم عليها برهان قاطع يفيد العلم، حتى يعودوا كما كانوا أمة واحدة، ويسلكوا سبيل سلفهم الصالح في التفرغ لما فيه عزتهم وبذل السعي والوسع فيما يعلي شأنهم، والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل)
إصداراته:
للشيخ عبد المجيد سليم مجموعة من الإصدارات، تم جمعها ونشرها في بضعة أجزاء (الأعمال الكاملة) بتقديم المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة، وهي غير منتشرة بسبب آرائه المباشرة في البنوك وآلات العزف والشيعة والبهائيين والدروز واحتفالات المولد النبوي، وغيرها.. وهي فتاوى وآراء ضد توجّه الدولة، ولذا يتم التعتيم على الرجل وكتاباته
وفــاته:
رحلَ الشيخ عبد المجيد سليم عن الدنيا، في 7 أكتوبر سنة 1954م، الموافق 10 من صفر سنة 1374هـ.
اللهم اغفر له، وارحمه، واجعل له عندك زُلفَى، وحُسن مآب
…………
يسري الخطيب