في ظل الأزمات الاقتصادية المستمرة التي تعصف بإيران، تبرز ظاهرة “الاقتصاد الجنسي” كإحدى أكثر القضايا إثارة للجدل في المجتمع الإيراني، تحت مظلة زواج المتعة، وهو تقليد شيعي مشروع- لديهم- يتيح عقد زواج مؤقت بين رجل وامرأة لفترة محددة مقابل مهر، وتطورت شبكات معقدة تستغل هذا النظام لتقنين مماسات أقرب إلى الدعارة، مما يثير تساؤلات حول الدين، والأخلاق، وحقوق الإنسان.
زواج المتعة
زواج المتعة، المعروف أيضًا بـ”الزواج المؤقت”، هو عقد شرعي في المذهب الشيعي يسمح للأطراف بالاتفاق على زواج لمدة محددة (من ساعات إلى سنوات) مع دفع مهر، ووفقا لتحقيقات لمراكز بحثية، تنتشر في إيران قنوات على منصات التواصل الاجتماعي تروّج لأنواع من العلاقات بين الجنسين لغتها مشفّرة بعبارات متعددة، مثل: “صيغة حلال”، و”زواج تحت إشراف شرعي”، أو “مرافقة إسلامية منضبطة”، اختر، وادفع، ثم رتّب لقاء.
وأشار تقرير نشرته مجلة “المجلة”، إلى إشرف مراكز دينية في مدن مثل طهران، وقم، ومشهد، على هذه العقود، حيث يتقاضى رجال الدين رسومًا مقابل إتمامها، ولكن في كثير من الحالات، يتحول هذا النظام إلى غطاء لممارسات أقرب إلى الدعارة، حيث تُدار “بيوت المتعة” كمراكز تجارية تستقطب الزبائن، خاصة في أحياء مثل حي “نواب” في طهران.
الأسعار
تُظهر التقارير أن الأسعار تتراوح بين 20 و50 دولارًا للقاء الواحد، مع تقسيم الأرباح بين العاملة في الجنس، والوسيط، ورجل الدين الذي يتقاضى نسبة تُعرف بـ”الخمس” لضمان “حلية” المعاملة، وهذا الاستغلال للنصوص الدينية أثار انتقادات حادة من ناشطين حقوقيين، مثل الناشطة الإيرانية شيرين عبادي، التي وصفت هذه الممارسات بأنها “تحويل المرأة إلى سلعة تحت ذريعة الدين”، ومع ذلك، يدافع البعض عن النظام معتبرين إياه وسيلة شرعية لتلبية الاحتياجات الجنسية في مجتمع محافظ.
الأزمة الاقتصادية الدافع الرئيسي
تُعد الأزمة الاقتصادية في إيران، الناتجة عن العقوبات الدولية، وانهيار قيمة العملة، وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية (تجاوزت 40% في السنوات الأخيرة وفقًا لتقرير البنك الدولي 2023)، المحرك الأساسي لهذه الظاهرة، ما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر، حيث يعيش أكثر من 30% من السكان تحت خط الفقر، وفقًا لتقديرات مركز الإحصاء الإيراني، وهذا الوضع دفع العديد من النساء، خاصة المهمشات والأرامل والمطلقات، إلى الانخراط في الاقتصاد الجنسي كوسيلة للبقاء.
ووفقًا لتقرير “بي بي سي” (2016)، فإن النساء اللواتي يعملن في هذا المجال يواجهن ضغوطًا اقتصادية هائلة، حيث أصبحت تكاليف المعيشة تفوق قدرتهن على تحملها، وتشير بيانات منظمة “أفتاب” غير الحكومية إلى أن حوالي 10,000 امرأة يعملن في الدعارة في طهران وحدها، منهن 35% متزوجات يسعين لدعم أسرهن، كما أن انخفاض سن العاملات في هذا المجال إلى 12 عامًا في بعض الحالات يعكس تفاقم الأزمة، حيث تجبر الفتيات القاصرات على الانخراط في هذه الأنشطة بسبب الفقر أو الإكراه.
التبعات الصحية
تشهد إيران ارتفاعًا مقلقًا في الأمراض المنقولة جنسيًا، وهي إحدى التبعات المباشرة لتوسع الاقتصاد الجنسي، والدكتورة بروين أفسر كازروني، رئيسة منظمة “السيدا” للوقاية من الأمراض المنقولة جنسيًا، أشارت في 2017 إلى أن أمراض مثل الهربس التناسلي وفيروس الورم الحليمي البشري (HPV) باتت أكثر شيوعًا من الإيدز، خاصة بين الشباب، ووفقًا لمصطفى إقليما، رئيس الجمعية العلمية للمساعدين الاجتماعيين، فإن حوالي مليون شخص في إيران مصابون بالثآليل التناسلية، وهو مرض يصعب علاجه بسبب طبيعته الفيروسية.
تُعزى هذه الأزمة إلى عدة عوامل، منها غياب برامج توعية صحية فعالة، ومحدودية الوصول إلى وسائل الحماية مثل الواقيات الذكرية، خاصة في الأوساط المهمشة، كما أن العاملات في الجنس، اللواتي غالبًا ما يعملن في ظروف غير آمنة، يواجهن مخاطر صحية متزايدة، مما يفاقم الأزمة الصحية العامة، وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن إيران بحاجة إلى استثمارات كبيرة في التعليم الصحي والرعاية الطبية للحد من هذه الأمراض.
التداعيات الاجتماعية.. وصمة عار وتهميش
تعاني النساء المنخرطات في زواج المتعة أو الدعارة من وصمة اجتماعية شديدة في المجتمع الإيراني المحافظ، ودراسة أجريت في مدينة قم (نشرتها جامعة طهران عام 2015) أظهرت أن النساء اللواتي يشاركن في زواج المتعة يواجهن العنف الجنسي، والإجهاض القسري، ونظرة المجتمع السلبية، مما يؤدي إلى تهميشهن اجتماعيًا، كما أن الأطفال الناتجين عن هذه العلاقات غالبًا ما يُتركون في الشوارع أو يُستخدمون في أنشطة غير قانونية، مما يعمق الأزمة الاجتماعية.
في مدن دينية مثل قم ومشهد، حيث تُعتبر هذه الأماكن مراكز للزواج المؤقت، تواجه النساء ضغوطًا إضافية، حيث يُجبرن أحيانًا على هذه الممارسات لسداد ديون أزواجهن أو لتلبية احتياجات عائلاتهن، وهذا الوضع يعكس تناقضًا صارخًا بين القيم الدينية المعلنة والواقع الاجتماعي، حيث تُستغل النساء تحت ذريعة الشرعية.
البعد السياسي والديني.. تناقضات النظام الإيراني
يُظهر الاقتصاد الجنسي في إيران تناقضات النظام السياسي والديني الذي يدعي الالتزام بالشريعة الإسلامية، من ناحية، يدعم النظام زواج المتعة كجزء من المذهب الشيعي، بل ويروج له كحل للتحديات الاجتماعية، على سبيل المثال، دعا وزير الداخلية الأسبق بور محمدي في 2013 إلى تعزيز هذا النظام لتلبية احتياجات الشباب، ولكن من ناحية أخرى، تنفي الحكومة وجود الدعارة، وتصف التقارير حولها بأنها “مؤامرات غربية”.
هذا الإنكار يعكس استراتيجية سياسية للحفاظ على صورة النظام كمدافع عن القيم الإسلامية، لكنه يتجاهل تورط رجال الدين، وقوات الأمن، والحرس الثوري في تسهيل هذه الأنشطة، كما أشارت تقارير مثل تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الاتجار بالبشر (2020)، وهذا التناقض يعقد مناقشة المشكلة بشكل علني، حيث يتم قمع الأصوات التي تحاول تسليط الضوء على الظاهرة.
المقارنة الإقليمية
للظاهرة أوجه تشابه مع سياقات إقليمية أخرى، حيث تُستخدم الأطر الدينية أو القانونية لتقنين ممارسات استغلالية وعلى سبيل المثال، في العراق، يُستخدم زواج المتعة أيضًا في بعض المناطق الشيعية، لكن بدرجة أقل تنظيمًا من إيران، التى تتميز بحجم التنظيم الديني لهذه الممارسات، حيث تلعب المؤسسات الدينية دورًا مباشرًا في إدارتها.
وتفتقر إيران إلى إطار قانوني واضح لتنظيم هذه الأنشطة، مما يزيد من استغلال النساء تحت ذريعة الشرعية، وهذه المقارنة تُبرز الحاجة إلى إصلاحات قانونية تحمي النساء بدلاً من استغلالهن تحت أي ذريعة، حسبما ذكر مراقبون.
التحديات القانونية والحقوقية
من الناحية القانونية، تواجه إيران تحديات كبيرة في معالجة الاقتصاد الجنسي، والقوانين الحالية، مثل قانون العقوبات الإسلامي، تفرض عقوبات صارمة على الدعارة، تصل إلى الإعدام في بعض الحالات، لكن هذه العقوبات نادرًا ما تُطبق على الزبائن أو الوسطاء، بل تتركز على النساء، ووفقًا لمنظمة العفو الدولية (2021)، فإن النساء اللواتي يُتهمن بالدعارة يواجهن الاعتقال والتعذيب، بينما يتمتع الرجال المتورطون بحصانة نسبية.
كما أن غياب قوانين تحمي النساء من الاتجار بالبشر أو الاستغلال الجنسي يعمق الأزمة، وتقرير وزارة الخارجية الأمريكية (2020) صنّف إيران في المستوى الثالث (الأسوأ) في مكافحة الاتجار بالبشر، مشيرًا إلى أن الحكومة لا تبذل جهودًا كافية لحماية الضحايا، بل تسهل في بعض الحالات ماوصفه التقريرب” الاستغلال الجنسي التجاري”.
حلول شاملة
ولمواجهة هذه الظاهرة، أكدت مراكز بحثية إيرانية ضرورة احتياج الأمر إلى نهجًا شاملاً يتجاوز الإنكار الرسمي، مثل إصلاحات اقتصادية، ومعالجة الفقر والبطالة من خلال توفير فرص عمل للنساء، خاصة في المناطق المهمشة، وبرامج توعية صحية مثل تعزيز التعليم الصحي حول الأمراض المنقولة جنسيًا وتوفير وسائل حماية مجانية، وإصلاحات قانونية تضمن تطوير قوانين تحمي النساء من الاستغلال بدلاً من معاقبتهن، مع التركيز على محاسبة الوسطاء والزبائن، وتشجيع الحوار المجتمعي حول الاقتصاد الجنسي بعيدًا عن الوصمة الدينية أو السياسية، وإنشاء مراكز تأهيل للنساء والأطفال المتضررين، مع توفير دعم نفسي وقانوني.