الاقتصاد المصري والنفق المظلم .. بين مظاهر الأزمة وسبل تجاوزها
استعرضت دراسة لمركزأمد للدراسات السياسية أبرز ملامح الأزمة الاقتصادية المزمنة والمعقدة التي تعاني منها مصر خلال السنوات الأخيرة. وتعطي أولوية خاصة لأزمة الطاقة؛ حيث تحولت مصر في السنوات الأخيرة إلى مستورد صاف للنفط بعد سنوات من الوعود بتحقيق الاكتفاء الذاتي! كما تطرقت إلى أزمة الأجور وانخفاض المستوى المعيشي للمواطنين.
وفي الإجابة على سؤال من المتسبب في هذه الأزمة الممتدة تفند الدولة بعض السياسات الحكومية التي أدت لتشخصيات خاطئة وعلاجات أشد خطأ، فبعد 3 برامج للإصلاح الاقتصادي بالشراكة مع صندق النقد الدولي خلال أقل من 10 سنوات، لا زالت الأزمة تتزايد دون أفق للحل، فيما عدا استمرار الخطاب الحكومي بتعليق الفشل على الأزمات الخارجية.
وفقا للدراسة فإن الحديث عن أزمة اقتصادية في مصر، بات أمرا معتادا من قبل المسئولين بالسلطة التنفيذية خلال السنوات الأخيرة، بل من قبل السيسي شخصيا، كما أن مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، كثيرًا ما يشير إلى وجود أزمة مستفيضا في شرح أسبابها، وكيف تتعامل الحكومة معها.
لكن المستوى الأكثر أهمية، هو رجل الشارع الذي يدفع ثمنًا كبيرًا على حساب مستوى معيشته، جراء الأزمة الاقتصادية وتبعاتها، والتي تتبلور مظاهرها بشكل كبير في ارتفاع الأسعار المستمر، بسبب تقليص الدعم الحكومي من جهة، ومن جهة أخرى ارتفاع أسعار السلع والخدمات، والتي من أبرزها الوقود والغاز الطبيعي والكهرباء، سواء بالنسبة للمنازل أو المصانع.
وفي مشهد يعد أكثر غرابة، شهدت مصر انتخابات عدة منذ انقلاب يوليو 2013، على الصعيد الرئاسي والبرلماني، ولكن مع ذلك لم يكن هناك محاسبة عن تراجع الأوضاع الاقتصادية، من خلال التصويت الانتخابي، وذلك بسبب عدم نزاهة الانتخابات من جهة، ومن جهة أخرى فقدان الثقة من قبل الناخبين في أن تؤدي العملية الانتخابية إلى نتائج إيجابية لتحسين مستوى معيشتهم.
ولكن الجديد في الحالة المصرية، أن فكرة العقد الاجتماعي، التي بنيت عليها الدولة الحديثة، والمتمثلة في تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة، وترتيب واجبات ومسئوليات على كل طرف، تتعرض لممارسة جديدة، بحيث تحصل الدولة على كل حقوقها من المواطنين، مقابل ألا يكون عليها أية مسئوليات أو واجبات يمكن محاسبتها عليها.
يعد قطاع الطاقة واحدًا من أبرز مظاهر الأزمة الاقتصادية بمصر، فالدولة التي أعلنت أنها امتلكت حقلًا كبيرًا من الغاز الطبيعي شرق المتوسط، وهو حقل ظهر في مطلع 2018، وأنها ستكتفي ذاتيًا من خلال هذا الحقل على الصعيد المحلي، بل سيمكنها من التصدير، أصبحت مستوردا صافيا للنفط، بل وتعاني من عجز يظهر من تراجع معدلات الإنتاج أمام معدلات الاستهلاك، مما دعاها غير مرة لرفع أسعار الطاقة للمستهلكين، سواء كانوا أفرادا أو شركات.
حيث تبين أرقام النشرة المعلوماتية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء في شهر سبتمبر 2024، أن الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج من النفط والغاز الطبيعي في مصر في تزايد على مدار العام الماضي، ففي يوليو 2023 كان إجمالي الإنتاج من النفط والغاز 6.29 مليون طن، بينما كان الاستهلاك 7.19 مليون طن، بعجز يبلغ 900 ألف طن، أما في يوليو 2024 فقد بلغ الإنتاج 5.47 مليون طن مقابل استهلاك بلغ 7.76 مليون طن، وبعجز بلغ 2.29 مليون طن.
وحقيقة الأزمة في قطاع الطاقة، كما تبينها الأرقام، أن المشكلة ليست في الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج، ولكن الأزمة التي ربما تتصاعد خلال المرحلة المقبلة، هي أنه في الوقت الذي يزيد فيه الاستهلاك تتراجع معدلات الإنتاج.
وكان لهذه الأرقام دلالتها في وجود عجز في الميزان البترولي لعام 2023/2024، حيث يوضح ميزان المدفوعات عن نفس العام أن الصادرات البترولية بلغت 5.72 مليار دولار، بينما الواردات البترولية بلغت 13.37 مليار دولار، وبالتالي فالعجز في الميزان البترولي بلغ 7.64 مليار دولار.
قد تتذرع الحكومة بأن هذه هي إمكانياتها، ولكن اللافت للنظر، أن الحكومة كثيرًا ما تحدثت عن سعيها لتكون مصر مركزًا إقليميًا للطاقة، وأنها أبرمت عقدها مع الكيان الصهيوني لاستيراد الغاز الطبيعي لتقوم بتصديره لأوروبا، لتستفيد من إعادة التصدير، ولكن الحقيقية، أن السياسة السليمة غابت عن تصرف الحكومة في إدارة ملف الطاقة.
وبلا شك أن أزمة الفجوة بين الأجور والأسعار، واقع معيش يؤرق الأسرة المصرية، ولم تعد الأجور المعلنة كحد أدنى، تناسب أعباء الأسرة المتزايدة في ظل معدلات تضخم، أدت إلى زيادة معدلات الفقر، ليكون أكثر من 30% من سكان مصر فقراء، ونحو 60% من السكان إما فقراء أو معرضين للفقر.
وكان مظهر تزايد أعداد المهاجرين المصريين للخارج، وتزايد معدلاته هو أحد مظاهر الأزمة الاقتصادية، سواء كانت هذه الهجرة شرعية أم غير شرعية، بل والأدهى هو زيادة معدلات الهجرة النوعية، المتمثلة في الأطباء والمهندسين، مما أفرغ المجتمع المصري من كفاءات هو أحوج ما يكون إليها.
أيضًا تشير الاحصاءات الرسمية إلى تراجع معدلات الزواج بين الشباب، وزيادة معدلات الطلاق للمتزوجين حديثًا، بسبب الأزمة الاقتصادية.
ومن الثابت بحسب الدراسة الإشارة إلي أن أسباب الأزمة الاقتصادية في مصر تراكمية، فتوجه الحكومات المتتابعة وحرصها على الاستمرار بالاعتماد على الموارد الريعية، فيما يتعلق بالنقد الأجنبي، من خلال عوائد قناة السويس، وايرادات السياحة، وتحويلات العاملين بالخارج، والاستثمارات الأجنبية في قطاعات ذات قيمة مضافة ضعيفة، مكنت من حالة الضعف لأداء الاقتصاد المصري.
ولذلك يتأثر الاقتصاد المصري سلبيًا، كلما مرت المنطقة أو العالم بأزمة سياسية أو اقتصادية، فتتراجع معدلات السياسة، وكذلك تتناقص إيرادات قناة السويس، وتكون تحويلات العاملين بالخارج عرضة للزيادة أو النقص، لأسباب خارج عن الإرادة المصرية، فيكون الاقتصاد المصري، في موقع المتغير التابع في معادلة العلاقات الاقتصادية الدولية.
فاهتمام الحكومات المتتابعة بعد يوليو 2013، توجه للتوسع في البنية الأساسية، بشكل يزيد عن الاحتياجات التنموية، حتى على مدار 20 سنة قادمة، وهو ما ساهم في التفريط في الموارد المالية المتاحة من قروض ومساعدات. فعادة إنشاء البنية الأساسية يكون مرتبط بالتنمية العمرانية المنتظرة، وهو ما لم يحدث في مصر.
فالعاصمة الإدارية الجديدة على سبيل المثال، لا ينتظر منها استيعاب أعداد كبيرة من السكان، ولكنها سوف تضم قلة من الأغنياء، القادرين على نفقات المعيشة بها، كما أنها في مجمل مشاريعها العمرانية تخاطب الخارج، الشركات الأجنبية.
وتجاهلت الحكومات المصرية، قضية أن يكون لديها برامج حقيقية، فيما يتعلق بالاستثمار الحقيقي، في قطاعات الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، كما تجاهلت الحكومات المصرية، تقديم برنامج للتخلص من الديون المحلية والخارجية، بما يمكنها من حسن توجيه المتاح من إيرادات الموازنة للتعليم والصحة وانتاج التكنولوجيا.
وحتى الآن، لم تحسن الحكومات المصرية في جذب استثمارات مباشرة، يمكنها أن تحسن من أداء الاقتصاد المصري، وتقلل من اعتماده على الخارج، أو تساعد في توطين التكنولوجيا، فمعظم الاستثمارات الأجنبية في قطاعات استخراج النفط والغاز، وكذلك في قطاعات السياحة، والعقارات، أو الخدمات المالية، وبخاصة تلك التي تأتي في إطار برنامج الخصخصة.
ولأول وهلة فإن هذه التوجهات في مجال الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ساعدت على أن تكون تلك الاستثمارات عبئا على الاقتصاد المصري، من خلال إخراج هذه الشركات لأرباحها من السوق، الذي يضم نحو 105 مليون نسمة، وحسب أرقام ميزان المدفوعات عن عام 2023/2024، تبين أن هذه الاستثمارات أخرجت أرباحًا من مصر بنحو 19.7 مليار دولار، في الوقت الذي تعاني فيه مصر أزمة في النقد الأجنبي، ويتطلب الأمر مراجعة حقيقية، وتوجه جديد حيال تلك الاستثمارات.
وهنا يطرح تساؤل نفسه وهو من المسئول من هذه الأزمة المتفاقمةوالإجابة ببساطة تتمثل في الحكومات المتعاقبة منذ يوليو 2013، هي من تضع السياسات وتنفذها، وهي المسئولة عن عقد الاتفاقيات الدولية، للديون والاستثمار الأجنبي، وغير ذلك من الأمور التي ينتج عنها التزامات مادية.
كما أن الحكومة هي التي رأت أن الدخول مع صندوق النقد في 3 برامج هو المخرج من أزمتها الاقتصادية، والحقيقة أن الأمور ازدادت تعقيدًا، فبعد برنامج 2016، لجأت الحكومة في ظل كورونا لاتفاق جديد مع الصندوق، وبعد الأزمة الروسية الأوكرانية، وما نتج عنها من خروج للأموال الساخنة، المتمثلة في تعاملات الأجانب في الدين الحكومي المحلي لمصر، لجأت الحكومة المصرية مرة أخرى، لصندوق النقد الدولي.
لم يكن اللجوء لصندوق النقد الدولي للحصول على قروض، مجرد نزهة، بل فاتورة كبيرة دفعها المواطنون المصريون، عبر تخفيض قيمة الجنيه المصري من نحو 9.5 جنيه للدولار قبل عام 2016 إلى ما يصل إلى 49 جنيه للدولار في نوفمبر 2024.
وهو الأمر الذي أدى إلى تراجع قيمة ثروات ومدخرات المصريين، بنحو 50%، وعمق من ظاهرة الدولرة، واكتناز الذهب فيما تبقى للمصريين من مدخرات، وقد حرم هذا الأمر المجتمع من استثمار تلك الأموال التي تم إخراجها من الدورة الاقتصادية للمجتمع.
كما أن الحكومات التي توسعت في الاقتراض الخارجي والمحلي دون رؤية اقتصادية سليمة، هي التي تتحمل المسئولية، فالديون العامة، ما لم توجه للاستثمار والإنتاج، تظل عبء على الأجيال الحالية والمستقبلية، وهو ما لمسناه في الواقع الحالي، حيث زادت نسبة فوائد الديون من أزمة الموازنة العامة للدولة، حيث أصبح بند الفوائد بالموازنة هو الأعلى بين بنود الإنفاق المختلفة، حيث أصبحت الديون تصل إلى نسبة 40% تقريبًا من إجمالي الإنفاق العام.
وطبيعي في ظل هذه النسبة المرتفعة للفوائد من الإنفاق العام، أن يتراجع الاهتمام بالإنفاق على الصحة والتعليم والاستثمار، وهو ما تولد عنه تراجع مستوى المعيشة للمصريين بشكل عام.
ركزت الحكومات المتعاقبة على تنفيذ برنامج للخصخصة، لم تعد فيه الأمور واضحة بخصوص حدود هذه الخصخصة، حتى أصبح كل شئ قابل لأن يدخل في إطار برنامج الخصخصة، وبخاصة بعد العمل بقانون صندوق مصر السيادي.
وكان الأمر الأكثر سلبية، في كون الحكومات المتعاقبة هي السبب في الأزمة الاقتصادية، القيام بتصفية صروح صناعية أقيمت منذ الستينيات وكانت عمد للاقتصاد المصري، في قطاعات الحديد والأسمنت والورق، مما ترتب عليه زيادة اعتماد مصر على الخارج، وارتفاع قيمة الواردات.
ويشترك في المسئولية عن الأزمة الاقتصادية بمصر، الأجهزة والهيئات الرقابية، التي لا تمثل صمام أمان للمجتمع المصري تجاه التصرفات والسياسات غير السليمة للحكومة، فمجلس النواب، يكتفي بعض أعضاءه من المعارضة بمجرد إلقاء بيانات عند مناقشة الموازنة العامة للدولة، أو مناقشة بعض القوانين، بينما تستطيع الحكومة تمرير كل ما تريد في الجوانب الاقتصادية وغيرها، مما يعد تفريغًا لمجلس النواب من دوره ووظيفته.
كما أن باقي مؤسسات وأجهزة الرقابة لم تنجح على مدار السنوات الماضية، في تقليل معدلات الفساد في الأداء الحكومي، وما نتج عنه من أضرار اقتصادية واجتماعية أصابت المجتمع في مقتل.
غير مرة تحدث السيسي، عن الأزمة الاقتصادية، وأنهم قد بذلوا ما في وسعهم، وأن ما تعانيه مصر من أزمة اقتصادية انما هو ناتج عن جائحة كورونا، وكذلك التداعيات السلبية للحرب الروسية على أوكرانيا، وطبيعي أن تتأثر الأوضاع الاقتصادية لمصر بسبب هذه التداعيات، لكن الغريب أن الجميع تجاوز هذه التداعيات وبقيت مصر تعاني من أزمة اقتصادية، هي في حقيقتها أزمة هيكلية داخلية، فكل يوم يزيد اعتماد مصر على الخارج، ولم تنجح في زيادة معدلات إنتاجها، أو التوجه لبناء قاعدة إنتاجية قوية تحميها من تقلبات الأحداث الإقليمية والدولية.
وعلى نفس منوال السيسي، أدى مصطفى مدبولي رئيس الحكومة، حيث صرح بأن التحديات التي تواجهها الدولة المصرية على الصعيد الاقتصادي، بسبب الأزمات السياسية التي تشهدها المنطقة