البدري عبد الرحمن يكتب: غضبة الجماهير بين التطرف والاعتدال

مع اشتداد حملة الإبادة الجماعية التي يشنها كيان يهود الغاصب على أهل فلسطين المسلمين في غزة خاصة، وفي عموم أرض فلسطين، ومع تحرك الأمة بجماهيرها وكبارها وصغارها للتعبير عن نصرتها لأهل غزة، ومطالبة الجيوش في الدول المحيطة أو المتصلة بهذه القضية من بلاد المسلمين بالتحرك لنجدة أهل غزة، ومع طول أمد الحرب وقسوتها على أهلنا الصابرين في فلسطين، ومع تأخر نجدة الجيوش؛ بل عدم تحركها للقيام بالواجب الذي يمليه الشرع والأخوة الإيمانية، صرنا نسمع من هنا وهناك خطاب التعقل والواقعية والممكن وغير الممكن والمسموح وغير المسموح، ومعها ألفاظ -التطرف والمتطرفين والاعتدال والمعتدلين والإرهاب والإرهابيين- تدور على ألسنة الحكام والمفكرين ووسائل الإعلام عند تناول الحدث، فمن يدعي تأييد المقاومة يصف حكومة الكيان بأنها حكومة متطرفين ويقودها الإرهابيون، ومن يسير في قطار التطبيع يتناول في حديثه الأبطال الذين يدافعون عن أرضهم بأنهم من المتطرفين والإرهابيين، وأشهر من تفوه بذلك عدو الله السيسي في بدايات هذه الحرب وفي كل مناسبة، وتناسى الجميع أن القضية هي احتلال لأرض إسلامية، وقتل وتشريد لأبناء المسلمين!! وكأن السلام كان موجودا!! وكأن الحق كان مصانا ومحفوظا!! ولكن الذي حرك الأحداث وأجج الأحقاد هم المتطرفون من الطرفين!! ولو فسح المجال لعودة الحوار وقيادة العقلاء والمعتدلين؛ لتم حل الأزمة، ولحل السلام والأمن والرخاء للجانبين…

هذه الصورة التي ينحتها الإعلام والحكام في صخرة الأحداث لن تؤثر في وعي الأمة؛ فالأمة تعرف عدوها جيداً، وتعرف من يقف في صف عدوها، ولن يخدعها إعلام مزيف، ولا حكام كاذبون. ولكن الفكرة التي يجب معالجتها في جماهير الأمة، والتي من الممكن أن تؤثر في مدى صبر الأمة وإصرارها على القيام بالواجب من تحريك الجيوش، وقلع الحكام، وتحرير كامل فلسطين، هي فكرة: «الاعتدال والتطرف»، هذه الفكرة المركزية الخطيرة في خطاب الإعلام والحكام ومن يتبعهم؛ لجعل من يحمل الأفكار الإسلامية ويطالب بالحلول الإسلامية من تحريك الجيوش «متطرف»، ويصفونه بالتطرف والطوباوية وعدم الواقعية، وفي المقابل يتم وصف من يناشد المجتمع الدولي، ويقف في مظاهرات الاحتجاج على جرائم القتل من زاوية إنسانية، وينتظر تحرك محكمة العدل الدولية، هو من المعتدلين العقلانيين الواقعيين!، وهذا التصور خطير جدا، وهو ما نعالجه في الأمة ونخشى أن يتسرب إلى وعيها، بغض النظر عن مواقف الحكام ومسرحيات الإعلام.

فكل حديث عن الحركات الجماهيرية وعن الأحزاب الإسلامية التي تطالب بالواجب وبالحل الجذري، ووصفها بالتطرف، وكل حديث عن أفكار الإسلام وخاصة السياسية منها، ووصفها بعدم الواقعية، يعد حديثاً خطيراً ينفذه أعداؤنا بطول نفس ودهاء، وما ذلك منهم إلا لغرض خبيث، هو محاربة الإسلام وحملة دعوته، وبقاء الأمة أسيرة واقع الذل والهوان واستعلاء الأعداء والأوغاد.

ذلك أنه بعد أن صارت الأمة الإسلامية، لا ترى خلاصا لها من محنتها إلا بـ«إسقاط الحكام وإقامة حكم الإسلام»، وبعد أن أقبل جمهرة المسلمين على العمل بالإسلام والتمسك بأحكامه، وبعد أن صارت تطالب الجيوش بالوقوف في صف الأمة ونصرة قضاياها، وفي خلع الحكام أو في إنهاء الاحتلال، وهي تتجاوب مع حزب إسلامي يصرُّ على هذه المطالب في أعماله، وفي تحريك الأمة نحو هذه الأهداف، ويجعلها تفكر وتعمل للتخلص من الأنظمة العلمانية، ومن أفكار الغرب والدساتير والقوانين الوضعية الظالمة، وبعد أن صار كل ذلك أعمالاً حيوية ظاهرة، هال هذا الأمر المستعمرين ودول النظام الرأسمالي المتجبرة، كما هال الحكام العملاء والمفتونين بالثقافة الغربية والحاملين لها، فراحوا يتلمسون السبل لوقف هذا الزحف، فسارعوا الى الناحية الفكرية؛ لتشويه أحكام الإسلام، وتنفير المسلمين من حملة دعوته، ولصرفهم عن العمل لقلع أفكار الغرب وأنظمته، وخلع الطواغيت الظلمة الذين يجثمون على صدور الناس ويسحقون أضلاعهم، وبالتالي صرف المسلمين عن مسيرتهم نحو تحررهم وإعادة عزتهم والحكم بما أنزل الله.

فكانت ألفاظ التطرف والمتطرفين، والاعتدال والمعتدلين، التي شهروها في وجوه المسلمين العاملين بالإسلام وللإسلام، وقد صرفوا هذه الألفاظ عن دلالتها والمعاني التي وضعت لها عن خبث وسوء نية، فجعلوا من ينكر على حكام المسلمين الطواغيت ظلمهم وتبعيتهم للغرب، ويعمل لتطبيق الشريعة متطرفا، وجعلوا من يسايسهم ويرضى عنهم، ومن يعمل للإصلاحات الجزئية مع بقاء نظام الكفر معتدلا، هكذا دبروا، وهكذا نفذوا، ثم أتى أعوانهم من المثقفين بالثقافة الغربية، ومن بعض المشايخ؛ ليكونوا أبواقا لهذه الضلالات، وهذا الإجرام الذي ما بعده إجرام.

ثم تمادوا في صَلَفِهم وعمالتهم، فنادوا بأن كل من يحرم موالاة الغرب ودوله من الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين والروس..، والاستعانة بهم، هو متطرف ومنغلق ومتزمت، وأن من يقبل الاستعانة بهم ويسمع لقرارتهم فهو المعتدل العقلاني الإيجابي، أما الإسلام فإنه يحرم على المسلمين موالاة الكفار يهودا كانوا أو نصارى، ويحظر علينا اتخاذهم أولياء وأنصارا، قال سبحانه: {لَّا ‌يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللهِ فِي شَيۡءٍ}، وقال تعالى: {لَّا ‌تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ}.

وأخيرا، طلعوا علينا بأن وقف الحرب في غزة يكمن في حل الدولتين، ومعناه شبه دولة للمسلمين مقابل تسليم كامل فلسطين للمحتلين والاعتراف بدولة (إسرائيل)، وباحتلالها، ووصفوا هذه الخيانة بالاعتدال والتعقل، وأن من يحرم الصلح مع كيان يهود، وينادي بالقضاء على دولة الاحتلال من جذورها متطرف غير واقعي، في حين أن الإسلام يوجب على المسلمين أن يردوا كل كافر يهاجم بلادهم، ويوجب عليهم استرجاع كل شبر من أرض الإسلام ظهر عليه #الكفار واغتصبوه، هذا كله معلوم من الدين بالضرورة، ‎لا ينكره إلا كافر أو جاهل.

وهكذا صرفوا هاتين الكلمتين -التطرف والاعتدال- عن دلالتيهما وتلاعبوا بهما كعادتهم في التلاعب بالدين والألفاظ، وبمصير هذه الأمة كلها.

ذلك أن الاعتدال لغة: هو وسط بين حالتين في كم أو كيف، وكل ما تناسب فقد اعتدل، وإن التطرف هو تجاوز حد الاعتدال.

أما الاعتدال شرعا: فهو الالتزام بالأحكام الشرعية والاستقامة عليها والإتيان بها على الوجه الذي شرعه الله.

وأما التطرف فليس له دلالة شرعية؛ كون هذه اللفظة لم ترد في النصوص، ولا استعملها فقهاء الإسلام، ولذا فإنه ليس لها سوى الدلالة اللغوية فحسب، فإذا أردنا أن نستعملها في الشرع قلنا: أن التطرف هو مجاوزة الحدود التي وضعها الشرع، أي مخالفة أحكام الإسلام. هذا هو التطرف، وهذا الاعتدال.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا ‌فلا ‌تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها»، فالذي يقف في صف الغرب وحلوله العبثية، ويمنع العمل السياسي على أساس الإسلام ويقصر الإسلام على العقائد والعبادات والأخلاق فقط وبعض المعاملات، كل هؤلاء يعتبرون متطرفين ومتنطعين لأنهم جازوا حدود الأحكام الشرعية التي جاء بها محمد بن عبد الله كاملة نقية عليه أفضل الصلاة والسلام.

وليس من التطرف تمسك الشخص أو الجماعة برأي أو حكم في أي شأن من شؤون الحياة، ما دام الحكم أو الرأي مأخوذا باجتهاد صحيح، فالمسلمون جميعا ملزمون بالتقيد بأحكام الإسلام، والإتيان بها كاملة وفق ما شرعه الله لعباده دون زيادة فيها أو نقصان، والوقوف عند حدود الله فيها وعدم تجاوزها حتى لو ناقضت مصالحهم وأهواءهم وعاداتهم، ورغبات حكامهم، وقوانينهم ودساتيرهم، فدين الله أحق أن يتبع، وحدود الله يجب أن تصان، وأحكام الإسلام يجب أن تطبق بالحكم، وأن يدعى لها، وأن يتكتل #المسلمون عليها وأن يعملوا لإعادتها إلى الحياة. قال تعالى: {وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللهُ إِلَيۡكَۖ}، وكل من يقوم بذلك فهو ملتزم ومتمسك ومعتدل، أما من يخالف هذا فهو المتطرف والمخالف والآثم، قال تعالى: {تِلۡكَ ‌حُدُودُ ٱللهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلظَّلِمُونَ}.

فيجب على #جماهير المسلمين وكل الدعاة المخلصين أن ينتبهوا لتلك الفكرة الخبيثة التي يسوقها هؤلاء المضلين المحرفين المغرضين، ولا يخدعوا بأقوالهم ولا يرددوا ما يلقونه إليهم عبر الإعلام الخبيث؛ بل يقفوا في وجوههم، ينادوا بالواجبات الشرعية بأعلى صوتهم، ويصروا ويصبروا عليها كما أمر ربنا جل وعلا في كتابه العزيز: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللهَ ‌لَعَلَّكُمۡ ‌تُفۡلِحُونَ}.

البدري عبد الرحمن/ ناشط سياسي – ثوار الغوطة الشرقية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights