“التقـــــرير”.. قصــة : د. ياســر عبد التــواب
افترشا الأرض جميعا، وضعا الأوراق عليها، صنفاها حسب أنواعها..
كثيرة متداخلة..
خلع المدير (غترته) وعقاله وانحني على كوم التقارير يحاول أن ينظم بعضها، في حين انكب موظفه على بقية الأكوام يقبلها بيد خبير، ويأخذ ورقة من هنا، ويسجل معلومة من هناك.. وينهض في همة ليفتح دولابا ويلتقط منه (دوسيها) يقلب فيه ؛ ثم يكتب ما يريده منه كراس صغير..
مر وقت طويل قبل أن ينهض (المدير) في ضيق ؛ وهو يلتقط غترته من على الأرض ويقول: سأنصرف الآن وأترك لك المهمة..
ابتسم الموظف قائلا: لا يزال أمامنا عمل كثير.
- أنت أهل لذلك وأنا أثق بك
- شكرا لك. ولكن المشكلة في ضيق الوقت الذي تطلب فيه التقرير
- عهدي بك دائما دقة العمل وسرعة الإنجاز فلا تخذلني أرجوك ..فأنت تعلم كم أعلق من الآمال على هذا التقرير.
- أعرف وسأجتهد إن شاء الله.
- وكل ذلك بالطبع سيرفع من شأننا معا..
وأنت بالذات تحتاج إلى أن يأخذ عنك رئيس مجلس الإدارة فكرة مناسبة، فالحق يقال إنك مجتهد ولابد من تقرير يناسب عطاءك..
ابتسم الموظف ابتسامة خجلى وأطرق قائلا: عفوا.. فأنا أؤدي واجبي.
- ولك أن تحلم بترقية وربما زيادة الراتب ..لا تنس أن الحياة صعبة ..والمصاريف كثيرة وأسرتك في البلد بحاجة لكل مال ترسله إليهم
- أطرق في تأمل ولم يرد..وأحس بحشرجة من نبرة تهديد لم تفته
- انشغل المدير بإصلاح هندامه وتنسيق عقاله رافعا عينيه إلي أعلى لينظر إلي مكان طي الغترة لينصفها فوق رأسه..
ثم انصرف وهو يقول: لن أؤكد لك على أهمية الإسراع، فأنت تعرف ذلك…
في ظلمة الليل جلس وحده ..
عقارب الساعة تعانقت عند منتصف الليل ثم تخاصمت متنافرة ..
يراها تتباعد مع كل صفحة تكتب وجدول يصاغ ..
ومع اقتراب الفجر كان قد أنهي عمله
أعاد كل شئ مكانه في كلل ثم أنصرف..
بخطى وئيدة أتعبها السهر والتركيز..
كاد يرتطم بجدار بعد أن أطفأ النور، وتحرك في الظلام وحده..
أصابته رعدة من رهبة المكان وحلول الظلام فتمتم بأية الكرسي ..
ولم يدر كم من الوقت مر به حتي استقر على فراشه ؛ فقد كان الإعياء يتحكم في خطاه فينسيه الشعور بالوقت والمسافات
تعجب عندما وجد نفسه مستلقيا على ظهره يتقلب في فراشه هل وصل أخيرا ؟ .. ولئن كان جسمه قد تعب فإن ذهنه لا يزال متقدا..
ما له يفكر ؟ .. أي شئ يشغلني ؟
بحث في نفسه فوجدها منشغلة بكلام المدير..
سيأخذ عني الرئيس .. فكرة مناسبة ..
لعله يرقيني .. ادخل يا محمود ..
لا .. تفضل يا أستاذ محمود ..
لا تجلس بعيدا .. نعم ..
رأيت فكرك ثاقبا في التقارير التي ترفع ..
كم كنت غافلا عنك.. من الآن ستعمل معي مباشرة ..،
يتقلب مرة أخري وينظر إلي ساعته
هل حقا سيعرفون قيمتي..
لقد كنت مخلصا لعملي، وآن لهم أن يقدروني ..أما زملائي ..وسرح متذكرا إياهم.. أنت يا جاسم: ألم تكن تتجاهلني كلما مررت بي ..
وعلى وسعيد وبو سعود ..
ألم تتندروا آنفا على اجتهادي ..
الآن حق لي أن أسبقكم جميعا ..
لن أكون مثلكم ..
سأعفو عنكم وسأضع كل شئ في نصابه ..
أما مديري فلعله يرتقي إلي وظيفة أخري.. رئيس قطاع مثلا..
زم شفتيه وحرك لسانه، ولعق لعابه، وهو يتهادي في أحلامه ..
سيرفعون راتبي .. الضعف ؟ معقول .. النصف ! يا ليت..
وسأشتري قطعة أرض صغيرة في البلد ..
آذان الفجر يدوي قام منتبها وذهب ليصلي ثم عاد ..
الوقت يمر ..
أول الموظفين كعادته.. استقبله الفراش فألقي عليه التحية المعتادة ..
وهو يقول لنفسه عن قريب ستتسع ابتسامته الغائرة…
جلس على مكتبه وشرع في كتابة التقرير على الكمبيوتر ولم تمض ساعة حتى انتهت اللمسات الأخيرة من التقرير وأصبح جاهزا تماما..
أخيرا جاء المدير .. دخل في عجلة .. كل شئ تمام ؟
نعم .. نعم ..
أخرج المدير ورقة جاهزة من مكتبه ووضعها فوق التقرير لمحها بطرف عينه.. التقرير السنوي لنشاط القسم من إعداد .. فلان الفلاني (اسم المدير )
فرك (محمود) عينيه..
أين وضع أسمه ؟ ..
ألم يعده بأنه سيعطي الرئيس فكرة عنه؟ وسط ذهوله وأفكاره خرج المدير .. وغاب عن ناظريه ..
القلق يتسرب إلي نفس (محمود) .. أتراه قد نسب التقرير إلى نفسه ونسيني ؟
أم سيذكر للرئيس ذلك مشافهة !..
ساعة مرت وهو يدافع أفكاره حتى عاد المدير مطرق الرأس..
قال جاسم : هل تعرفون ما حدث ؟
بو سعود: فضيحته على الألسن لا تختفي .. !
على ضاحكا: نعم سألوه عن تفاصيل التقرير ماذا تقصد بهذه الجملة .. ما الدلائل من هذا التفريع ؟ كيف وضعت هذا الجدول ؟
سعيد : بالطبع لم يجب .. واستحي أن يستدعي (محمود)
همس بو سعيد : وهل (محمود) هو الذي كتب التقرير.. نظروا جميعا إلي مكان (محمود) الذي كان جالسا على مكتبه يقلب أوراقه في أسي
—————
د. ياسر عبد التواب