حين نتأمل كتاب “الحجاب” للأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي، ندرك أننا أمام نص يتجاوز حدود الأدب إلى رحاب الفكر والدين والاجتماع.
المنفلوطي لم يكتب كأديب يرصّع عباراته بالصور البلاغية فحسب، بل كصوت غيور على أمته، يخشى عليها من الانسلاخ عن جذورها الإسلامية والوقوع في براثن التغريب. الكتاب وثيقة فكرية وأدبية متكاملة، تضع قضية الحجاب في إطارها الشرعي والحضاري، وتربط بين ستر الجسد وصيانة الروح وحماية المجتمع من الانهيار.
خلفية تاريخية وسياق التأليف
ظهر الكتاب في مطلع القرن العشرين، زمن الاحتلال البريطاني لمصر، حيث كانت الدعوات إلى السفور وتقليد الغرب تعلو أصواتها بين بعض المثقفين والكتّاب. وقد كتب قاسم أمين قبله تحرير المرأة والمرأة الجديدة داعياً إلى رفع الحجاب باعتباره رمزاً للتأخر. هنا وجد المنفلوطي نفسه ملزماً بالتصدي لهذه الموجة، ليس بصفته فقيهاً، بل أديباً مؤمناً يناصر الشرع الإسلامي. فكان الحجاب بمثابة رد أدبي ـ شرعي على تلك الدعوات، يؤكد فيه أن ستر المرأة ليس تقليداً عتيقاً بل أمر إلهي قطعي الثبوت والدلالة، قال تعالى:
“وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا” (النور: 31).
مضمون الكتاب
يضم الحجاب سلسلة من المقالات التي بناها المنفلوطي على حجج عقلية وأدبية مستندة إلى أصول الشرع:
1- الحجاب والفضيلة: يؤكد أن الحجاب سدّ منيع يحفظ عفاف المرأة ويصون المجتمع من الفتنة، مستشهداً بالآية:
“يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ” (الأحزاب: 59).
ويرى أن المرأة التي تُحجِب جسدها تعلن حرية روحها وكرامتها، بينما السفور يفتح الباب أمام الانتهاك والاستهانة.
2- الحرية الحقيقية: يرد على من زعموا أن الحجاب تقييد للمرأة، قائلاً إن الحرية ليست في كشف الشعر والوجه، بل في طهارة الضمير وصيانة الجسد. فالحجاب ليس سلباً للحرية، بل حمايتها من عبث الأهواء والشهوات.
3- الحجاب والهوية: يربط المنفلوطي بين السفور والانفصام عن الجذور الإسلامية، مؤكداً أن الأمم لا تنهض بتقليد غيرها في الملبس والمظاهر، وإنما بتجديد روحها وأخلاقها.
4- الرد على دعاة السفور: يهاجم دعاة التحرر الزائف الذين زعموا أن كشف المرأة لوجهها وشَعرها مدخل للتقدم. يقول بلهجة حادة: “ما قيمة أمة كشفت نساؤها عن وجوههن إذا بقيت عقول رجالها محجوبة عن النور؟”
أسلوب المنفلوطي في عرض القضية
أبدع المنفلوطي في المزج بين البيان الأدبي والحجة الشرعية. فالنص يتخلله استدعاء للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مثل قول النبي (صلى الله عليه وسلم)
“المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان” (رواه الترمذي).
ويعمد إلى تصوير السفور كسراب يزينه الغرب، لكنه يؤدي إلى الهلاك الأخلاقي، بينما الحجاب واحة أمان تظلّل المرأة والمجتمع معاً.
أثر الكتاب في عصره
أحدث الحجاب ضجة فكرية واسعة، إذ اعتُبر سلاحاً فكرياً بيد التيار المحافظ في مواجهة تيار التغريب. التف حوله جمهور واسع من القراء الذين وجدوا فيه صوت الضمير الإسلامي، فيما هاجمه بعض المثقفين الذين رأوا فيه دعوة للجمود. لكن حتى خصومه اعترفوا ببلاغة أسلوبه وقوة تأثيره العاطفي.
نقد ودلالات معاصرة
انتقد بعض المفكرين العرب المنفلوطي لأنه اعتمد على الوجدان أكثر من التحليل الاجتماعي الواقعي، لكنه نجح في التعبير عن روح الإسلام التي ترى في الحجاب عبادةً وحياءً ورمزاً لسيادة القيم. واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن، يظل كتابه نصاً حياً في قلب معركة الهوية، إذ يتكرر الجدل حول الحجاب في المجتمعات العربية، بين من يجعله خياراً شخصياً ومن يراه فريضة شرعية.
البُعد السياسي والفكري
لا يمكن إغفال أن دفاع المنفلوطي عن الحجاب كان أيضاً دفاعاً عن كرامة الأمة الإسلامية في وجه الاستعمار الثقافي الغربي. فالتمسك بالحجاب في نظره لم يكن قضية لباس، بل موقف حضاري يربط الماضي بالحاضر ويحفظ للمجتمع روحه الخاصة. وقد أدرك أن التخلي عن الحجاب ليس خطوة نحو التحرر، بل نحو الارتماء في أحضان التبعية للغرب.
الحجاب
يبقى الحجاب للمنفلوطي نصاً أدبياً فريداً جمع بين قوة البيان وعمق الإيمان. هو صرخة أدبية ـ شرعية ضد الانسلاخ من قيم الإسلام، ودفاع عن المرأة لا باعتبارها جسداً يُعرض، بل روحاً تُصان. وهو أيضاً وثيقة تاريخية تكشف جذور الصراع بين الشرق والغرب، بين الأصالة والتغريب، بين الشرع الإلهي والشهوات البشرية. ولعل أجمل ما يلخص الكتاب أن الحجاب ليس مجرد عادة اجتماعية، بل عبادة ربانية وراية هوية، تحفظ المرأة والمجتمع، وتؤكد أن الحرية الحقيقية هي في طاعة الله، لا في الخضوع لهوى الإنسان.