في زمنٍ اختلطت فيه خطوط النار، وتداخلت فيه الجبهات، لم تعد الحروب تنشب بين جيوش نظامية، ولا بين دول ذات حدود، بل صار الصراع يجري في كل حيّ، وكل شاشة، وكل فكرة… هكذا ترى الكاتبة جاكلين غابان (بالمشاركة مع مارسينا ياكيتش) في كتابها الاستثنائي “الحرب الأهلية العالمية”، وهو عمل فكري تحليلي يكشف عن طابع الصراعات الجديدة التي تمزّق العالم من الداخل، لا من الخارج.
غلاف الكتاب وحده يشي بالمضمون العميق: كرة أرضية تتخذ شكل قنبلة يشتعل فتيلها. إنها ليست مجرد استعارة بصرية، بل خلاصة مكثفة لفكرة الكتاب: العالم يعيش حربًا أهلية مستمرة، لا تقتصر على دولة بعينها، بل تشمل الجميع.
حرب بلا جبهات… ولا جنرالات
تشرح غابان أن الحروب الحديثة لم تعد تعرف جنرالات ولا جيوشًا تقليدية، بل باتت تدور بين “أشباح”:
شركات أمنية خاصة.
جيوش إلكترونية.
كيانات أيديولوجية عابرة للحدود.
قوى اقتصادية تتلاعب بالأسواق والوعي الجمعي.
إعلام يشعل الحروب كما يشعل الشائعات.
وما تسميه الكاتبة “الحرب الأهلية العالمية” هو ببساطة: انهيار فكرة الدولة المركزية، وتحوّل العالم إلى مسرح صراعات داخلية دائمة، لا تعرف هدنة ولا سلامًا شاملاً.
العالم كله صار سوريا أو العراق أو ليبيا!
بجرأة فكرية لافتة، تسأل الكاتبة:
“ماذا لو كانت كل دول العالم تحمل في داخلها بذور حرب أهلية؟”
ثم تجيب: “نحن نعيشها، لكن بأساليب مموّهة: تارة باسم الحريات، وتارة باسم الدين، وتارة عبر المال والإعلام والهوية”.
فالعالم الذي كانت فيه “الحرب الأهلية” تنتمي فقط للدول المتخلفة أو المنقسمة، صار اليوم يعيشها في أعرق ديمقراطياته. يكفي أن نشاهد ما يحدث في الولايات المتحدة، فرنسا، وحتى ألمانيا… حيث تصعد تيارات الكراهية والعنصرية، وتنقسم الشعوب على أساس العرق أو الدين أو الانتماء السياسي.
حرب ناعمة… لكن فتاكة
أخطر ما في “الحرب الأهلية العالمية”، كما تقول الكاتبة، أنها “ناعمة”. لا تندلع بصواريخ، بل بخطاب كراهية على “تويتر”، أو بحملات تضليل على “فيسبوك”، أو بسياسات اقتصادية تفكك الطبقات الاجتماعية من الداخل.
تستند الكاتبة إلى نظريات مفكرين معاصرين كـ:
ميشال فوكو في تفكيك السلطة وتوزيعها.
زيغمونت باومان في تحليل “الحداثة السائلة”.
ناعوم تشومسكي في نقد الإعلام كأداة حربية خفية.
من المسؤول؟ ومن العدو الحقيقي؟
في ختام الكتاب، تطرح غابان سؤالًا وجوديًا:
“من نحارب؟ من هو العدو؟”
لتقول:
“العدو لم يعد خارجيًا. إننا نحارب بعضنا، نحارب أنفسنا. العدو اليوم هو الانقسام، الإعلام المُسيس، الجشع الاقتصادي، والانفجار الثقافي المفتعل”.
أهمية الكتاب في السياق العربي
هذا الكتاب مهم للعالم العربي بدرجة خاصة، لأنه يسلّط الضوء على نمط الحروب الذي نعيشه منذ عقود:
حرب الميليشيات.
الصراعات الطائفية.
الحروب بالوكالة.
التفكك الإعلامي والثقافي.
ويمنح القارئ إطارًا نظريًا لفهم ما يجري في سوريا، ليبيا، اليمن، وحتى السودان… ليس باعتباره صراعًا محليًا، بل جزءًا من “حرب أهلية كونية” ذات طابع معولم، تحكمها القوى الكبرى، ولكنها تُدار بأيدٍ محلية.
كلمة أخيرة:
“الحرب الأهلية العالمية” ليس كتابًا تقليديًا عن الجيوش والأسلحة، بل هو دراسة عميقة في علم السياسة، وعلم النفس الجمعي، وعلم الإعلام. إنه صرخة تحذير من عصر تتآكل فيه الدول من الداخل، وتُستنزف الشعوب بلا وعي، ويصبح السلام مجرد وهم.