منذ قرون بعيدة، كانت جموع الفرسان الأوروبيين ترفع الصليب وتتجه شرقاً في حملات عسكرية وُصفت بأنها “مقدسة”. لكن ما تبقى من تلك الحملات لم يكن مجرد أطلال ولا قلاع مهدمة، بل خطاب ثقافي وسياسي يواصل العيش حتى يومنا هذا. الغرب، كما يراه الباحث الأميركي جون فيفر، ما زال أسيراً لصور الماضي، يعيد إنتاجها في لحظات الأزمات، ويصبغ بها حروبه المعاصرة ضد الإسلام.
في كتابه “الحرب الصليبية الثانية: حرب الغرب المستعرة مجدداً ضد الإسلام”، يكشف فيفر كيف تحولت الحملات الصليبية من واقعة تاريخية إلى “ذاكرة سياسية”، وكيف أصبح الإسلام بعد سقوط الشيوعية العدو البديل الذي يوحّد الغرب ويمنحه مبرراً للاستنفار. الكتاب الذي تُرجم إلى العربية بجهد محمد هيثم نشواتي، ونشره منتدى العلاقات العربية والدولية، يُعد من أبرز المراجع التي تتناول ظاهرة الإسلاموفوبيا من منظور تاريخي وسياسي متداخل.
الفكرة الرئيسة
يؤكد فيفر أن ما يجري اليوم ليس حرباً عسكرية فقط، بل حرب خطاب وصورة، حيث تُستخدم الأساطير القديمة لتبرير سياسات الحاضر. “الحملة الصليبية الثانية” ـ كما يسميها ـ ليست جيوشاً تعبر البحار، بل هي شبكات إعلامية، وسياسات هجرة متشددة، وتشريعات مراقبة، وأحزاب يمينية متطرفة، كلها تلتقي عند هدف واحد: تحويل الإسلام إلى “عدو أبدي” يضمن استمرار التعبئة في الغرب.
فصول الكتاب
الفصل الأول: استهداف الإسلام
يفتتح الكاتب كتابه باستعراض أمثلة من الإعلام الأميركي والأوروبي، حيث يُقدَّم الإسلام مرادفاً للتطرف والإرهاب. من عناوين الصحف إلى تصريحات السياسيين، تتكرّس صورة نمطية تجعل “المسلم” خطراً على الأمن والهوية. يوضح فيفر أن هذه الصورة ليست بريئة، بل تُستخدم كسلاح سياسي.
الفصل الثاني: أساطير الحملة الصليبية الأولى
يعود المؤلف إلى القرن الحادي عشر والثاني عشر، ليُظهر كيف غدت الحملات الصليبية “أسطورة مؤسسة” في العقل الغربي. فرغم أن دوافعها كانت سياسية واقتصادية، إلا أن الذاكرة الشعبية اختزلتها في “معركة مقدسة ضد الإسلام”. هذه الأسطورة، كما يبين فيفر، بقيت صالحة لإعادة التوظيف بعد قرون طويلة.
الفصل الثالث: الشيوعية الجديدة
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، صُوِّرت الشيوعية عدواً مطلقاً يهدد الحضارة الغربية. لكن مع سقوط الاتحاد السوفيتي، وجد الغرب نفسه بلا خصم. هنا برز الإسلام كبديل: دين عالمي واسع، متعدد الثقافات، يمكن تصويره بسهولة كتهديد شامل، فيملأ الفراغ ويمنح الساسة ساحة جديدة للهيمنة.
الفصل الرابع: إطلاق الحملة
أحداث 11 سبتمبر 2001 كانت الشرارة التي أطلقت النسخة الثانية من “الحملة الصليبية”.
غزو أفغانستان ثم العراق، القوانين الاستثنائية في أميركا وأوروبا، واللغة العدائية في الإعلام، كلها صبت في صناعة عدو جديد. يصف فيفر هذه المرحلة بأنها لحظة إعادة تدوير للأساطير القديمة بوسائل عصرية.
الفصل الخامس: استمرار الحملة
لم تتوقف الحملة عند حدّ الغزو العسكري، بل تحولت إلى ظاهرة ثقافية. السينما، الكتب المدرسية، البرامج الحوارية، وحتى الإعلانات السياسية الانتخابية، كلها تشترك في تعزيز صورة “الإسلام الخطر”. يشير المؤلف إلى أن بعض مراكز الأبحاث، بتمويل ضخم، لعبت دوراً محورياً في نشر هذه السرديات.
الفصل السادس: انتقال الظاهرة إلى أوروبا
يلفت فيفر الانتباه إلى أوروبا حيث تتجلى الحرب الصليبية الثانية في قضايا الهجرة والهوية. من النقاشات حول الحجاب في فرنسا، إلى صعود الأحزاب اليمينية في ألمانيا وهولندا، يتضح أن الإسلام أصبح العدو السياسي المفضل. المخاوف من “أسلمة أوروبا” ليست سوى نسخة جديدة من خطاب الخوف القديم.
الفصل السابع: نحو إنهاء الحملة
على الرغم من قتامة الصورة، يفتح فيفر نافذة أمل. فهو يرى أن هذه الحملة يمكن إيقافها عبر الوعي المجتمعي، وكشف شبكات الكراهية، وتشجيع الإعلام المسؤول، وإقامة جسور حوار حقيقية بين الثقافات. بالنسبة له، الحل ليس عسكرياً بل ثقافياً وسياسياً.
أبرز المقولات والأفكار
“الإسلام اليوم هو الشيوعية الجديدة، العدو الذي يملأ فراغ ما بعد الحرب الباردة.”
“الحرب الصليبية الثانية لا تُخاض بالسيوف، بل بالكلمات والصور والسياسات.”
“الخوف سلعة سياسية رابحة، تُستخدم لتوحيد الداخل وتبرير العدوان في الخارج.”
“إنهاء الحملة يحتاج إلى شجاعة ثقافية، أكثر من حاجته إلى سلاح عسكري.”
سيرة المؤلف
جون فيفر كاتب وباحث أميركي، يشغل منصب مدير مشروع Foreign Policy In Focus في معهد السياسات بواشنطن. له مؤلفات ومقالات في قضايا السياسة الخارجية الأميركية، الحروب، والبيئة. يتميز أسلوبه بالجمع بين التحليل السياسي والسرد الثقافي، ما يجعله قريباً من القارئ العام والمتخصص في آن واحد.
سيرة المترجم والناشر
المترجم محمد هيثم نشواتي قدّم للكتاب لغة عربية سلسة دقيقة، جعلت نص فيفر قريباً إلى ذهن القارئ العربي دون فقدان نكهة النص الأصلي. أما منتدى العلاقات العربية والدولية، فقد عرف بترجماته الرصينة في الفكر والسياسة، ونشره لمؤلفات تكشف جذور العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب.
الأهمية السياسية والثقافية
يُعد هذا الكتاب من المراجع المهمة لفهم ظاهرة الإسلاموفوبيا. فهو لا يكتفي بوصفها كحالة اجتماعية، بل يربطها بتاريخ طويل من الصراع، ويكشف كيف تُستخدم سياسياً واقتصادياً. كما يقدّم منظوراً جديداً للباحث العربي والصحفي المهتم بتحليل الخطاب الغربي تجاه الإسلام.
مقارنات مع كتب عربية مشابهة
في السياق العربي، نجد كتباً قاربت الفكرة نفسها وإن من زوايا مختلفة:
“صدام الحضارات” (ترجمة كتاب صموئيل هنتنغتون) الذي أثار نقاشاً واسعاً حول فكرة الصراع بين الإسلام والغرب.
“الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق، الذي خاض في العلاقة بين الدين والسياسة لكن بمنظور داخلي.
“الغزو الفكري” لمصطفى السباعي، الذي تناول محاولات الغرب لفرض سيطرته الثقافية على الشرق.
“الإسلاموفوبيا” لعبد الوهاب المسيري، الذي ربط الظاهرة بالسياق الحضاري الأوسع.
ما يميز كتاب فيفر هو أنه مكتوب من داخل الغرب نفسه، فهو شهادة من قلب المؤسسة الفكرية الأميركية على استمرار الحملة الصليبية في ثوب جديد.
الحرب الصليبية الثانية
الحرب الصليبية الثانية ليست عنواناً مثيراً فقط، بل وصفاً دقيقاً لواقع يعيشه العالم منذ بداية القرن الجديد. فالغرب الذي يفاخر بديمقراطيته وحرياته، ما زال يستدعي أشباح الماضي ليبرر حروبه ويشد أواصر هويته.
الكتاب يذكّرنا بأن المواجهة ليست عسكرية فحسب، بل ثقافية وإعلامية، وأن بناء المستقبل يتطلب وعياً يكشف زيف الصور النمطية، ويعيد بناء الحوار بين الشرق والغرب على أسس من الاحترام المتبادل.
إنه كتاب لا يكتفي بالتحليل، بل يوجّه نداءً: أن نفهم جذور الخوف قبل أن يتحول إلى كراهية، وأن نحول الذاكرة المشتركة من ميدان صراع إلى جسر تواصل.