الحل الإسلامي في سورية.. النزوح الطوعي للسلفية الجهادية نحو نظرية التغيير الإخوانية
مضر أبو الهيجاء
لعل تحدي إقامة الدولة الإسلامية وتمكين أحكام الدين في الدولة والمجتمع والاقتصاد وكل شؤون الحياة في التجربة الإسلامية على أرض الشام هو من أهم التحديات المطروحة على طاولة الإسلاميين، لاسيما وهو الهدف الأسمى والمعلن بين جميع الحركات الإسلامية منذ زوال الخلافة وحتى اليوم.
التناقضات الإسلامية بين النظرية والممارسات العملية!
لقد أثبتت جل التجارب الإسلامية في الدول العربية والإسلامية -على اختلاف مشاربها بين سلفية واخوانية وسرورية وجهادية- خلال قرن، أنها ما إن تنتقل من التصورات الفكرية والمناهج النظرية إلى الساحات العملية واستحقاقاتها السياسية حتى تبرز هوامش وفجوات وتناقضات بين نظريتها الأساسية في التغيير والتمكين وبين الواقع العملي المعتبر لحقائق موضوعية، مما يؤثر بشكل بالغ في مواقفها مدا وجزرا وتبديلا وتطويرا، خطأ وصوابا، تيها ورشدا.
الانفصال عن الواقع.. حزب التحرير نموذجا
لم يخالف في ذلك إلا حزب التحرير، والذي بقي محتفظا بنظريته الفولاذية دون تغيير ولا تعديل ولا تطوير، وذلك نتيجة لانفصاله العملي عن الواقع، وعدم اعتباره لحقائق الواقع الموضوعي واكتفائه بالاعتبار للحقائق الشرعية المجردة، الأمر الذي يمنحه بريقا فكريا، وابتعادا عن الأذى والصدمات ومحاولات الاجتثاث الحقيقي التي تحل وتصيب من يتصدر ويقارع ويتحمل أمانة التغيير وقضايا الشأن العام في واقع التدافع الموضوعي سياسيا وجهاديا واجتماعيا.
ومن باب المسؤولية الشرعية تجاه التجربة الشامية الواعدة، ومن باب النزاهة العلمية في التوصيف لتجارب الماضي ومناهج الحاضر المضطربة، ومن باب الأمانة في حمل رسالة التغيير الحالي في أرض الشام المباركة يمكن القول أن أحدا لم يكن متجانسا ومنسجما في تصوراته الفكرية وخطواته العملية وسلوكه السياسي واستيعابه العملي لموازين الواقع، كما كانت مدرسة الإمام حسن البنا وكما هي مقاربات الغزالي والقرضاوي رحمهم الله أجمعين.
ورغم أنني لم أنتمي طيلة حياتي وتجربتي الإسلامية لتنظيم الإخوان المسلمين، إلا أنني أقرأ بوضوح فوارق التجارب وأشير بشفافية إلى ضرورة الاهتداء والاستفادة من مدرسة الامام حسن البنا، والنهل من مقاربات الامام الغزالي، مفرقا بشكل واضح بين المنهج الذي اختطه البنا وبين تجارب الإخوان المسلمين الخائبة والفاشلة من الناحية العملية، والكارثية بنتائجها في معظم الساحات العربية والإسلامية.
ملاحظة:
يمكن الرجوع لمقال لي تحت عنوان:
الإمام حسن البنا هو القدوة وليس الإخوان المسلمين
الذهنية الشرعية والسياسية لدى الإمام المؤسس حسن البنا
وإذا كان طرح الامام البنا، ومقاربات الغزالي والقرضاوي يعتريها النقص سواء في نظرياتها الأساسية، أو القصور في مواقف وجوانب جزئية تستحق النظر والنقد والمراجعة لأجل انضاجها أو تصحيحا، إلا أن الذهنية الشرعية -المفضية للتعامل مع أمانة حمل رسالة التغيير- التي تشكلت في عقل البنا والغزالي والقرضاوي تتميز عن غيرها بالسوية والمعقولية التي تجمع بين نصوص وأحكام الشريعة وجوهر القرآن من جهة، وبين واقع الزمان واعتبار حقائقه الموضوعية من جهة أخرى، وهي الصورة المفقودة كليا أو جزئيا عند السلفية الجهادية، ولذلك فقد أهرقت الجهود والدماء خلفها دون نتائج حقيقية في صالح الأمة، بل إن فقر تفكيرها السياسي شكل أرضية استخدامها من قبل المشاريع الدولية وامتداداتها في النظم العربية الطاغوتية والمستبدة.
التقاء الحالة السلفية بالمدرسة الإخوانية سر فتح الشام المباركة
قد يطرح البعض استفهاما حول نجاح السلفية الجهادية -منفردة- في تحرير مدن الشام حتى وصول الفاتح إلى دمشق، دون أن يتوقف عند حقيقة علمية عملية إجرائية لا يجوز القفز عنها، وهي الدور الأساس في كل هذا المنعرج التاريخي الفاصل في حاضر ومستقبل الشام للرئيس التركي رجب الطيب أردوغان ذو الخلفية الإسلامية والمنبت الأصولي في المدرسة الإخوانية.
إن الذهنية الشرعية الدعوية الإصلاحية والسياسية التي تشكلت وتبلورت ملامحها في عقل الثلاثي (الامام البنا والغزالي والقرضاوي) تمتلك العصا السحرية التي تحتاج لمنظومة تنظيمية يتشكل رأسها ونواتها المقررة من قيادات واعية صادقة مع الفكرة، متجردة عن حظ نفسها، نقية عن الارتباطات بالدول والأجهزة الأمنية، الأمر الذي يشير إلى العامل الأساسي في إنجاح التجربة الإسلامية في سورية وهو: التوفيق في تشكيل النسيج الإسلامي للنواة الصلبة الحاكمة والمقررة في حاضر ومستقبل سورية.
لقد شكل الالتقاء في الموقف السياسي بين الجماعات السلفية والاخوانية الداعمة لأردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وعيا متقدما ومسؤولية شرعية، وبنفس الوقت فقد أشار لخزي التفرق ونتائجه الكارثية في معظم تجارب الساحات العربية والإسلامية -لاسيما المصرية- وهو اليوم حجة على الفريقين أمام تحدي التجربة الإسلامية الواعدة في ميدان أرض الشام المباركة.
فهل سينجح السلفيون والإخوان في تجاوز آثام تجاربهم السابقة؟ أم سيكررونها بحرفية وامتياز لتفلت من أيدينا الشام كما أفلت العراق واليمن ومصر الأمة؟
يمكن القول إنه لن تفلح المدرسة السلفية المعاصرة في إنجاح التجربة الإسلامية في سورية بمفردها باعتبار جوانب قصورها السياسي، كما لن تنجح التجربة بقيادة المدرسة الإخوانية الحالية منفردة باعتبار تشوهات تجاربها، وتماهي بعضها مع الأنظمة السياسية والمشاريع القهرية العلمانية، الأمر الذي يشير إلى أهمية وحساسية وأثر نتائج انتقاء وتشكيل نسيج النواة الإسلامية الصلبة الحاكمة والمقررة في حاضر ومستقبل سورية.
الحل الإسلامي في سورية يكمن باتباع منهج التدرج القرآني في الوصول لإقامة الأحكام الشرعية
لقد تدرج الشارع في تحريم الخمر حتى وصل إلى تحريمه وتمكينه وإقامة حكمه، وهو حكم نهائي لا تدرج فيها بعدما اكتمل الدين وختمت النبوة.
وإذا كان التدرج في التحريم غير جائز ولا وارد بعد اكتمال الدين وختم النبوة، فإن منهج التدرج القرآني في الوصول لإقامة الأحكام في الأرض، منهج قائم ودائم يجب الاهتداء والاقتداء به في موضوع إقامة الحكم الإسلامي والدولة، لاسيما أن الدولة ركن غير مطلوب لذاته وإنما السعي نحوها مطلوب لغيره، وهو إقامة أحكام الشريعة، والتي يعتبر حكم شرب الخمر أحدها وكغيره من أحكام الشريعة الواسعة والمتشعبة.
وإذا كان القرآن الكريم يستعرض منهج التدرج في بناء الأحكام الشرعية، فإن اكتمال الرسالة وختم النبوة لا يمنع من التدرج في الوصول لإقامة مجموع تلك الأحكام، وهو مقصد إقامة الدولة المسلمة.
وبكلمة يمكن القول أن منهج التدرج القرآني يشير إلى معقولية في تحقيق واجب إقامة الدين في الأرض، ويوجب على المسلم حمل تلك المسؤولية، ولا يعفيه من السعي لتحقيق هذا الواجب والتذرع بالعجز أمام صلابة الواقع الموضوعي وموانعه، فالفقيه لا يصبح فقيها حتى يميز بين خير الخيرين وشر الشرين.
الحل الإسلامي في سورية بين نموذجي مرسي وأردوغان.. في ميزان مطالب الدين وضرورات الواقع
رغم الخلفية الإسلامية المشتركة بين مرسي -رحمه الله- وأردوغان -أطال الله في عمره وسدده- إلا أن تجربتهما تختلف في مسارها ومواقفها ونتائجها!
وبغض النظر عن الظروف الموضوعية والوقائع السياسية التي أبقت أردوغان في الحكم وأزالت مرسي وقتلته في السجن، إلا أن خيارات التجربتين ومنهجيتهما الذاتية مختلفة وفارقة، وتستدعي الفهم والنقد المفضي لتسديد الخيار الإسلامي في التجربة السورية الوليدة، مستفيدة من صواب التجربتين ومتجاوزة لأخطائهما وقصورهما -وهي أخطاء وقصور يعتري كل التجارب السياسية.
من نافلة القول إن الواقع الموضوعي معتبر، وهو مختلف بين تركيا التي تعاني من أزمة هوية عميقة، وبين الحالة المصرية التي لا تعاني من صراع هوية حاد وعميق كما الشعوب التركية، وإذا كان نصف الشعب التركي مقبل على الدين ويتوق لأسلمة الدولة، فإن عموم الشعب المصري متدين -رغم هشاشة التدين الواسعة- وفيه غالبية كبيرة تتوق لأسلمة الدولة والمجتمع.
وبنظرة سريعة يمكن القول إن فوز أردوغان في الرئاسة لم يعكس نجاح التجربة الإسلامية، وإذا كان الإسلام قد انتشر أفقيا في تركيا، فإن العلمانية قد ازداد تجذرها عموديا وتصلبت وتجذرت خلال التجربة التركية الاسلامية المعاصرة!
كما أن الانقلاب على الرئيس الشرعي مرسي وقتله في السجن لم يعكس فشلا حقيقيا في التجربة الإسلامية المصرية، وذلك لأنها لم تنل حظها بشكل حقيقي من الحكم، بل كان حلولها في الحكم حالة انتقالية صورية لامتلاك سلطة مخصية.
فلماذا ضعف التدين ولم يشع نوره كما يجب وقويت العلمانية في تركيا رغم وصول أردوغان وحزبه لسدة الحكم ورغم امتلاكه لصلاحيات نافذة ومتقدمة، ولماذا لم يضعف الدين ولم تقو العلمانية في مصر رغم اقتلاع مرسي من الحكم؟
سأكتفي بالجواب الذي يشير للخيارات المنهجية في التجربتين، وأقول أن أردوغان قد استهدف تحقيق مبدأ الحرية والديمقراطية وعمل عليه (مدرسة الشيخ راشد الغنوشي فك الله أسره) ، بينما استهدف مرسي تحقيق إقامة الشريعة وعمل عليه، ( إضافة مواد إسلامية تعزز الدين في الدستور المصري)، فما الذي حصل؟
أضاف مرسي رحمه الله مواد جديدة تعزز الدين وأحكامه في شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية، وحقق أردوغان مزيدا من الحرية لكل الأطياف والأصناف في فضاء السياسة والحياة الاجتماعية.
رحل مرسي وتم الانقلاب عليه بتوافق دولي إقليمي -وجد فرصته في ظل قصور إدارة وتفكير الإخوان- ومع ذلك ظل الإسلام يتمدد في المجتمع المصري، وفاز أردوغان في الحكم وظلت العلمانية تتوسع وتتجذر في المجتمع التركي! فما هو السبب في تلك الظاهرة ؟
بغض النظر عن الجوانب المجتمعية المعتبرة والمشروع الدعوي الفارق في تمييز التجربتين التركية والمصرية، إلا أن الإشارة المقصودة والواجبة في هذا المقام هي للمنهج الذي اتبعه مرسي رحمه الله وهو الأصوب، وذلك حين استهدف إضافة مواد إسلامية في الدستور تروم أسلمة الدولة والمجتمع، خلافا لمدرسة الغنوشي التي تبناها وسار عليها أردوغان، حين استهدف تحقيق الحرية واعتبره الهدف الأسمى والأول، وإذا كان مرسي قد تعامل مع واقع الديمقراطية بشكله القهري الموضوعي، فإن أردوغان قد سعى لبناء وتحقيق الديمقراطية، الأمر الذي يفسر زيادة تجذر العلمانية في الحالة التركية، فيما تحافظ التجربة المصرية على رصيد متنامي يسعى لأسلمة الدولة والمجتمع!
ورغم ضرورة الحرية كإحدى المفردات التي تحقق كرامة الإنسان كالعدالة والمساواة، إلا أن القيمة المركزية في عقل وقلب المسلم الموحد هي للعبودية لله وحده، وليست لأي مفردة أخرى مهما زكت، وهو جوهر رسالة الأنبياء.
ولعل مثال شيخ الإسلام ابن تيمية يجسد مقاربة سليمة بين مفردة الحرية ومفهوم العبودية، حيث كان فاقدا لحريته الشخصية خلال فترات أسره الطويلة والمتعاقبة، وكان بنفس الوقت يخرج من سجنه الظالم ليقود ويقاتل تحت راية إمام المسلمين لأجل قتال الكفار المعتدين الذين يهددون بزحفهم دولة الإسلام، والتي هي سبب استقرار الدعوة وإقامة أحكام الدين، ويصد المعتدين عن أهل الإسلام الذين يتجسد فيهم مجتمع العبودية لله وحده.
وبكلمة يمكن القول إن مفهوم الحرية طغى على مفهوم العبودية لله وحده في بعض التجارب الإسلامية المعاصرة، وهو خلل تسرب للمناهج والأفكار الإسلامية من خلال رواد إسلاميين تأثروا بمناهج الغرب في سياق قوته المادية الغالبة، الأمر الذي أفقد بعض المشاريع الإسلامية فاعليتها في تحقيق المنشود، فلم تعد تعبر عن وراثة النبوة ورسالة القرآن، بل إن بعضها قد تحول إلى جسر مرحلي لمشاريع المخالفين والمعادين!
ملاحظة:
يمكن الرجوع لمقال لي تحت عنوان:
الخلاصة:
إن حالة النزوح الطوعي للسلفية الجهادية نحو نظرية التغيير الإخوانية في سورية تشير إلى أمرين وتوجب أمرا ثالثا وتحذر من أمر رابع.
أولا: إن تألق السلفية الجهادية ما قبل حلولها في الدولة قد انكسر على صخرة الواقع الموضوعي، فهرول مسرعا نحو نظرية التغيير الإخوانية الواقعية، والتي تعبر عنها مدرسة الإمام البنا ومقاربات الإمام الغزالي في فهم الواقع ومعقولية التعامل الحكيم معه مستصحبا دوما الرسالة الإسلامية الأساس والتي تعبر عن معنى وراثة النبوة وتنشد إقامة الحق في الأرض وتعبيد الخلق لله.
ثانيا: إن تحلي السلفية الجهادية بالمرونة السياسية التي عرفت في تجارب الإخوان المسلمين، يكشف عن وهم الخلاف السياسي بين المدرستين، ويوجب عليهما ديانة وخلقا وأمانة العمل المشترك في قضايا الشأن العام عداك عن العمل الدعوي الأساس، لاسيما وأن أحد الفريقين لا يتميز عن الآخر، فقد تماهت وتسابقت المدرستين في دخول البرلمانات والمشاركات الانتخابية، وتجلى فهمهما في موقف واحد داعم لأردوغان في الانتخابات الرئاسية، مع أن الرجل الذي يتمتع بخلفية إسلامية مشبعة وكثيفة، يمارس سياساته من خلال حزبه العلماني وفي إطار دولة لا تعترف بالمرجعية الإسلامية السياسية في نظمها وتكوينها.
ثالثا: إن شراكة المدرسة السلفية مع المدرسة الإخوانية في إطار سياسي مشترك يدير الدولة ويعالج قضايا الشأن العام، يشكل صمام أمان متقدم أمام الغرب بمشروعيه الصهيوني والصليبي، حيث سيستخدم الغرب امتداداته الداخلية تحت عناوين زائفة كالعلمانية والأقلية وحقوق الإنسان، وسيستخدم يده الخارجية إسرائيل لتمنع خروج المشهد السوري عن السيطرة، وهو أمر لن يطيقه أحد منفردا، الأمر الذي يوجب الالتحام السلفي الإخواني مستفيدا من امتداداته في الوطن العربي والإسلامي على المستوى الشعبي والرسمي.
رابعا: من الطبيعي أن تحاول أمريكا والغرب فرض النموذج الإسلامي العلماني في سورية، لاسيما وأن التحرير جاء نتيجة التقاء إرادتين،
الأولى، ثورية محقة ومشروعة.
والثانية، دولية خبيثة ومغرضة،
وفي ظل التجربة الوليدة في سورية بعد ستة عقود عجاف كلها قهر واستبداد، فإن المطالب الابتدائية الفطرية للسوريين قد تدفعهم لأسهل الخيارات التي ستفتح لهم الأبواب نحو الرخاء بإرادة غربية تروم التخلص من مشروع الإسلام السياسي وامتداداته المتصلة بالبنا والمودودي ومحمد رشيد رضا.
وإذا قارنا بين نموذجي التغيير عند مرسي وأردوغان فإن نموذج مرسي هو السقف الأدنى الواجب في سورية، لاسيما أنها نزفت الدماء لأجل استرداد الهوية الإسلامية، وامتلكت شرعية ثورية كاملة وحقيقية.