مقالات

الخروج والجهاد بين فقه الطاعة وفقه الثورة: أزمة تأويل أم أزمة واقع؟

محمود الشاذلي

منذ اندلاع الثورات العربية، تصدّر الخطاب الديني المشهد، ما بين مؤيد لثورة الشعوب باسم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ومعارض لها بحجة «درء الفتنة وحفظ الجماعة».

وبين فتاوى  علماء السلف وأحاديث المنابر، بقيت الأسئلة الكبرى تتردد دون إجابة قاطعة:

هل الخروج على الحاكم الظالم جائز شرعًا؟

وهل الجهاد قرار فردي أم عمل مؤسسي منضبط؟

وهل الساكت عن الظلم حكيم… أم خانع؟

أولًا: فقه الطاعة بين النص والتأويل

يستند الرافضون للخروج على الحاكم إلى مجموعة من الأحاديث، أبرزها ما رواه حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم:

يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس”،

قال حذيفة: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟

قال: «تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» [رواه مسلم].

هذه الرواية تُتخذ مرجعًا لدى كثير من رموز التيار السلفي المعاصر، وعلى رأسهم الشيخ ياسر برهامي، الذي صرح مرارًا أن “الخروج على الحاكم يؤدي إلى الفوضى ويخالف نهج السلف”.

ويرى هذا التيار أن الطاعة المطلقة واجبة في غير المعصية، لأن «مفسدة الخروج أعظم من مفسدة بقاء الظلم».

ثانيًا: المدرسة المناهضة.. فقه الثورة والسيف

لكن في الضفة الأخرى، يقف علماء آخرون برؤية مختلفة. الشيخ مصطفى العدوي يرى أن حديث «وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» ليس على إطلاقه، بل يُفهم في ضوء مقاصد الشريعة الكبرى.

كما يُستشهد بقول ابن حجر في «فتح الباري»:

«وقد أجمعوا على وجوب طاعة السلطان المتغلب، إلا إن ظهرت منه كفريات بواح تبيح خلعه، إذا توفر المسلمون على القدرة».

والإمام ابن تيمية نفسه، رغم رفضه للخروج، قال في مجموع الفتاوى:

«فإن المقصود من الولاية إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين، فإذا تعطلت هذه المقاصد سقطت شرعية الحاكم».

ثالثًا: الجهاد… من فريضة إلى معضلة

الجهاد هو الآخر صار ساحة تأويل واسعة، بين من يراه فريضة غائبة، ومن يعتبره لا يُقام إلا عبر قرار دولة ومؤسسات شرعية.

الشيخ الألباني يرى أن الجهاد لا يصح بدون راية شرعية. أما الشيخ محمد عبد المقصود،

أحد أبرز الوجوه الثورية، فيؤكد أن «الجهاد فرض عين في حال احتلال الأرض أو انتهاك العرض، ولو بدون إذن ولي الأمر».

ويُستشهد هنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:

«من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد».

رابعًا: بين السلف والواقع… أزمة عقل أم أزمة مرحلة؟

النقاش الحقيقي لا يدور حول النصوص، بل حول كيفية فهمها في سياقاتنا الحالية.

هل إسقاط فقه القرن الأول على معطيات الدولة القُطرية الحديثة فيه نوع من الجمود؟

وهل يمكن الجمع بين طاعة الحاكم ومحاسبته في آن؟

في زمن أصبحت فيه أنظمة الحكم لا تشبه نظم الخلافة، وصار الظلم ممنهجًا لا عارضًا، بات السؤال أكثر إلحاحًا:

هل نحن أمام نصوص تحكم بعقل متجدد؟ أم عقول تحكم بنصوص قديمة خارج سياقها؟

بين فتوى العالم وصرخة المظلوم

يبقى السؤال مفتوحًا: هل كان الحسين مخطئًا عندما خرج؟

وهل كان ابن عمر مصيبًا حين جلس؟

وهل ننتظر إذن الحاكم للجهاد، إذا استُبيحت الأوطان؟

أسئلة لا تنتهي…

وفي النهاية، فتوى العالم لا تسقط وجع الأمة،

ولا يجوز أن تكون طاعة الحاكم على حساب العدل،

ولا أن يكون السيف هو الحل دائمًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights