في سجل أعلام الفكر العربي والإسلامي، يسطع اسم الإمام أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري (467هـ – 538هـ / 1074م – 1144م)، الذي لُقِّب بـ “جار الله” بعد أن جاور الحرم المكي، وبات عَلَمًا في النحو، واللغة، والتفسير، والبلاغة، حتى غدا مرجعًا لا يُجارى في علوم العربية وبيان القرآن.
النشأة والتعليم
وُلد الزمخشري في مدينة زمخشر بخوارزم، وهي منطقة اشتهرت بالعلماء والفقهاء. نشأ في بيئة تقدّر العلم، فشبَّ مولعًا بالدرس والتحصيل. بدأ بحفظ القرآن الكريم، ثم أقبل على علوم اللغة والنحو والفقه والحديث. ورحل مبكرًا في طلب العلم إلى بخارى وجرجانية وبغداد والحجاز، فجمع بين ثقافات المشرق والمغرب الإسلامي، وكان واسع الاطلاع على التراث العربي منذ الجاهلية حتى عصره.
رحلته إلى مكة ولقب “جار الله”
من أبرز محطات حياته رحلته إلى مكة المكرمة، حيث جاور البيت الحرام سنين طويلة، فتشرّف بلقب “جار الله”، وصارت هذه الكنية قرينة اسمه في كل مؤلفاته ورسائله. وقد أتاحت له تلك المجاورة الاختلاط بالعلماء الواردين من كل أقطار الإسلام، وتبادل المعرفة، وتوسيع أفقه العلمي.
مكانته العلمية
كان الزمخشري إمامًا في النحو، متمكّنًا من أسرار العربية، بلاغتها وأوزانها، متبحّرًا في تفسير القرآن وعلومه. جمع في شخصه بين العالم اللغوي المتقن، والمفسر البلاغي، والأديب المصوّر، مما جعل آثاره تتجاوز حدود زمنه، وتظل مراجع أصيلة حتى اليوم.
كما كان ذا شخصية قوية في الحق، جريئًا في الطرح، صريح الرأي، حادّ العبارة، وهو ما أكسبه خصومًا بقدر ما أكسبه أنصارًا.
مؤلفاته
خلّف الزمخشري تراثًا زاخرًا يغطي ميادين النحو، البلاغة، التفسير، والأدب، ومن أبرز مؤلفاته:
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: تفسير للقرآن يعدّ من أعظم التفاسير البيانية والبلاغية، يجمع بين قوة التحليل اللغوي وروعة البيان.
أساس البلاغة: معجم لغوي فريد، جمع فيه مفردات اللغة في نظام مبتكر، وشرحها بأمثلة شديدة البلاغة.
المفصل في علم العربية: أحد أهم كتب النحو على الإطلاق، لا يزال مرجعًا رئيسيًا لدارسي اللغة.
ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: موسوعة أدبية جامعة للنوادر والحكم والأخبار التاريخية.
الفائق في غريب الحديث: عمل لغوي يشرح غريب ألفاظ الحديث النبوي.
رسائل ومختصرات أخرى في اللغة، والأدب، والفقه.
أسلوبه وميزاته
امتاز الزمخشري بأسلوب متين، وعبارة رشيقة مشحونة بالصور البيانية، وقدرة نادرة على استخراج دقائق المعاني من النصوص. كان يرى في اللغة العربية كائنًا حيًّا نابضًا بالجمال، لا مجرّد أداة للتعبير.
في تفسيره “الكشاف”، كان ينظر إلى القرآن بعيون نحويٍّ وبلاغيٍّ متمرس، فحلّل تراكيب الآيات، وأبان وجوه الإعجاز، وضرب الأمثال اللغوية التي تكشف عن عمق أسرار البيان القرآني.
فكره ومذهبه
عُرف الزمخشري بانتمائه إلى المعتزلة في العقيدة، وقد ظهر أثر ذلك في بعض تأويلاته القرآنية، خاصة في مسائل الصفات الإلهية والعدل الإلهي. ومع ذلك، فإن القيمة العلمية لأعماله اللغوية والبلاغية جعلت العلماء من مختلف المذاهب يدرسون كتبه ويستفيدون منها.
أقواله وأقوال العلماء فيه
من كلماته التي تكشف عن منهجه:
“من أراد أن يتصدّر لتعليم العلم، فليبدأ بإصلاح لسانه.”
وقال عن نفسه في مقدمة “أساس البلاغة”:
“هذا كتاب لم يُسبق إلى مثله، يجمع اللغة وطرائف البيان في نظام واحد.”
أما العلماء فقد أثنوا عليه، فقال النووي:
“هو إمام في اللغة والتفسير، قلّ أن يجود الزمان بمثله.”
وقال ابن خلكان في “وفيات الأعيان”:
“كان آية في معرفة النحو واللغة، مع حدة الذهن وجودة التصنيف.”
وفاته وإرثه
توفي الزمخشري سنة 538هـ/1144م في موطنه خوارزم بعد حياة حافلة بالعلم والتأليف. بقيت كتبه حيّة في المكتبات والجامعات، وتُدرَّس حتى اليوم، شاهدة على عبقرية عقلٍ عاش للعربية وخلّد اسمه في سجلّها الذهبي.
إن الزمخشري ليس مجرد نحوي أو مفسر، بل هو مدرسة فكرية متكاملة، جمعت بين العلم والذوق، وبين الصرامة النحوية وروح البيان. ومهما اختلفت المذاهب حول بعض آرائه، فإن مكانته في خدمة اللغة العربية والقرآن الكريم لا يرقى إليها شك، فقد ترك للأجيال إرثًا علميًا سيبقى منارة على مر العصور.
