السفير معصوم مرزوق يكتب: الجيش والدولة المدنية
تخيل بريمر الحاكم العسكري للعراق بعد إسقاط نظام صدام حسين أنه يستطيع من خلال الإدارة العسكرية أن يمارس كل وظائف الدولة التي انهارت، وكان يتباهى بغرور بإمكانيات الجيش الأمريكي في إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية، إلا أنه بمرور الوقت أدرك صعوبة بل واستحالة قيام القيادات العسكرية بتلك المهام المتعددة والمعقدة والتي تختلف تمامًا عن طبيعة الثقافة العسكرية وأساليب عملها، وسارعت الإدارة الأمريكية في النهاية بتوظيف أعداد متزايدة من المتخصصين المدنيين من أجل إدارة عجلة الدولة في العراق بنجاح.
كان ذلك هو نفس ما أدركه الجنرال «اللنبي» في مصر بعد ثورة 1919، حين أرسل إلى وزير خارجيته «كيرزون» يحذره من استحالة نجاح أي إدارة عسكرية لشئون الحكم المعقدة التي تتطلب خبرات معينة لها تراكم وتراتيب تختلف تمامًا عن أسلوب عمل القوات المسلحة.
إدارة مجتمع مدني تختلف تمامًا عن إدارة معسكر للجيش، فلا تصلح قواعد الضبط والربط والانضباط العسكري في سياسة أمور مجتمع مدني، وإن كانت بطبيعة الحال تصلح في قمع وكبت المجتمع إلى حين.
ولا شك أن الإدارة العسكرية قد تكون ضرورية في بعض المناطق المنكوبة مثل تلك التي تتعرض للزلازل أو الأعاصير، وذلك لفترة مؤقتة، وتحت إشراف ورقابة السلطة المدنية، فالاحتياج في تلك الحالات الاستثنائية يشبه إجراءات الإسعاف الأولية التي تتم في حوادث الطرق، ولكن لا يتم العلاج الكامل والشافي إلا في المستشفيات العامة ذات الطبيعة الشاملة.
وذلك ليس عيبًا في شخصية القائد العسكري، فهو بلا شك، وفي حدود تدريبه وإمكانياته، يجب أن يتحلى بقدرات إدارية خاصة تتيح له «السيطرة» على المرؤوسين واحترامهم له حتى وإن لم يحبوه أو يفهموا أسباب أوامره، ويحتاج في ذلك أحيانًا إلى استخدام الشدة والقسوة، وبشكل قد يصل إلى حد السادية بشكل مؤسف مع بعض الشخصيات المريضة، وهي صفات وأساليب يتفاداها المدير الإداري الجيد في الحياة المدنية، فهو «يسيطر» على المرؤوسين من خلال قوة النموذج ونشر أكبر قدر من التفاهم حول طبيعة العمل، وهو يؤمن بضرورة العمل كفريق، ومن خلال أداء ديمقراطي لتحقيق الأهداف المتوخاة من المنشأة المدنية، وهو لا يملك – قانونًا – استخدام القسوة أو الشدة بأي صورة من الصور مع مرؤوسيه، بل قد يحاسب ويعزل من وظيفته إذا لجأ إلى ذلك.
ذلك كله مفهوم في ضوء طبيعة المهنة الخطرة التي يتم إعداد الضابط لها، فلا يمكن مثلًا أن نتصور موقفًا في ميدان القتال يرفض فيه الجندي تنفيذ أمر قائده «لأنه غير مقتنع به»، فأسلوب العمل هنا يشبه حالة إرسال دون استقبال، أي إرسال أوامر دون انتظار تعليق عليها أو تأجيل في تنفيذها. ذلك أن أي تردد في التنفيذ قد يكلف الوحدة خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، بل قد يؤدي إلى الهزيمة.
ورغم التعقيدات العديدة التي توجد في ميادين القتال، إلا أنها في النهاية تأخذ أشكالًا بسيطة في تركيباتها المختلفة، وسواء على المستوى التكتيكي أو الاستراتيجي، يدور البحث الدائم عن مجموعة من الإجابات على أسئلة محددة لا يتجاوزها العلم العسكري، منها مثلًا دراسة أرض المعركة، وأوضاع قوات العدو، وأساليب الهجوم والدفاع وفقًا لكل حالة على حده، وكذلك بعض الإعدادات اللوجستية. وذلك لا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بشبكة التعقيدات في الحياة المدنية والتي تتناول باختصار كل دقائق حياة الإنسان وعلاقاته المتشابكة في المجتمع منذ ميلاده وحتى وفاته، ومثال واحد فقط قد يشير بجلاء إلى مدى تداخل وتعقيد تلك العلاقات إذا نظرنا مثلًا إلى مبدأ “تحقيق العدالة الاجتماعية” بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والنفسية. بل وجذوره التاريخية في مجتمع بعينه، بل ويكفي المقارنة بين قيادة وحدة من الوحدات العسكرية، وقيادة إحدى المؤسسات الاقتصادية الكبرى، الأولى هي سلسلة من التراكم التراتبي في القيادة يمكن رصد وقياس الأداء من خلال خط مستقيم للأوامر العسكرية من أعلى لأسفل، بينما تتميز الثانية بإدارات مختلفة يتعلق بعضها بالتخطيط والبعض الآخر بالتنفيذ والبعض الثالث بمراقبة الجودة والبعض الأخير بمشروعية الأداء وكفاءته.
الجيش مؤسسة من مؤسسات الدولة، أي أنه بداهة ليس الدولة، ولكن البعض يخلط عامدًا أو غير عامد بين «أنظمة الحكم العسكرية» و«الدولة العسكرية»، فمفهوم «عسكرة الدولة» من خلال أنظمة حكم عسكرية Militarism ليس مفهومًا بلا تاريخ، ويمكن أن توصف به كل الدول التي تعتمد سياسات القوة في علاقاتها الخارجية، ويمكن أن نضرب أمثلة من عمق التاريخ على هذا النوع من الحكم مثل الإمبراطورية الرومانية، وفرنسا في عهد نابليون بونابرت، وهو النظام الذي اعتمده هتلر وموسوليني في منتصف القرن العشرين، وهو نظام الحكم الحالي في كوريا الشمالية.
ومن أهم مواصفات هذا النظام أنه يعتمد سياسة رفع الجيش إلى مكانة خاصة في المجتمع والافتخار به، مع تمتع قياداته وضباطه بمكانة رفيعة واستثنائية داخل المجتمع تمثل طبقة قائمة بذاتها لها امتيازات وحصانات، ويكون للجيش دور بارز في إدارة شئون البلاد.
أما «الدولة العسكرية» فهي باختصار «الدولة المعسكر» حيث تسيطر الأساليب العسكرية على كل مناحي الحياة، أو هي ما يطلق عليه Stratocracy «ستراتوكراسي» (حيث ستراتوس تعني الجيش، وكراتوس تعني السيطرة أو السلطة)، وهي تختلف عن أنظمة الحكم التي يقودها مجموعة من الجنرالات، حيث أنها تعني «عسكرة» كاملة للدولة بكل منشآتها، ويكون الدستور والقوانين داعمة لهذا النوع من التحكم، ويلاحظ كذلك أن المجتمع نفسه تكون لديه القابلية لهذا النوع من الحكم، وأبرز نموذج لذلك هو دولة أسبرطة القديمة.
ويمكن أن نضيف إلى النوعين السابقين نوعًا ثالثًا يتلخص في نظام سياسي واقتصادي فاسد يختفي خلف القوة العسكرية التي لا تحكم في الواقع وإنما يتم استغلالها في حماية دولة الفساد والمحاسيب، حيث تبدو الواجهة عسكرية مع بعض الامتيازات الخاصة للقيادات العليا، بينما الحاكم الفعلي للبلاد هو الفساد وطبقة السماسرة والكومبرادور. وتكون الدبابات والمدرعات هي سلاح هذه السلطة الفاسدة المستبدة عندما تواجه القوى الوطنية المدنية، التي لا تملك في النهاية سوى سلاح واحد هو «الشعب»، فإذا أحسنت إعداده وأمدته بذخيرة معلومات ومعنويات فإنه يكون السلاح الأقوى والأمضى والمنتصر في نهاية المطاف. وذلك على كل حال حديث آخر.
كتبته
18 أغسطس 2017