حين تلتقي مصالح الصين الاقتصادية بطموحات باكستان التنموية، يولد مشروع يوصف بأنه “شريان القرن” في جنوب آسيا: الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC). باستثمارات تتجاوز 60 مليار دولار، يتحول هذا الممر إلى ما يشبه الجسر الذهبي الذي يربط بين غرب الصين وميناء جوادر الاستراتيجي،
فاتحًا أمام باكستان أبوابًا واسعة للنمو الاقتصادي، وجاعلًا منها مركزًا محوريًا في معادلة التجارة والطاقة العالمية. ليس مجرد طرق وسكك حديدية، بل مشروع يُعيد رسم خرائط النفوذ،
ويمنح باكستان فرصة تاريخية لتتحول من اقتصاد متعثر إلى لاعب إقليمي وازن، وفق رؤية يصفها الخبراء بأنها قد توازي في أثرها خطة مارشال التي غيّرت وجه أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
منذ أن أعلنت الصين وباكستان قبل أكثر من عقد عن إطلاق الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC)، تحوّل المشروع إلى أحد أكبر رهانات التنمية في جنوب آسيا.
فبقيمة استثمارية تتجاوز 60 مليار دولار، لا يُنظر إليه كمجرد خطة لبناء طرق وموانئ ومحطات طاقة، بل كمنصة شاملة لإعادة تشكيل اقتصاد باكستان وتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.
اليوم، وبعد سنوات من التنفيذ المتدرج، تتضح ملامح التأثيرات الاقتصادية والسياسية العميقة للممر، وسط توقعات الخبراء بأن العقدين القادمين قد يشهدان تحوّل باكستان إلى لاعب اقتصادي محوري في المنطقة.
أولًا: بنية تحتية لعصر جديد
يشمل CPEC تطوير آلاف الكيلومترات من الطرق السريعة وخطوط السكك الحديدية التي تربط شمال باكستان بجنوبها، مرورًا بمناطق كانت تعاني عزلة تنموية.
الخبير الاقتصادي د. عاصم خان يؤكد أن “CPEC هو خطة مارشال الخاصة بباكستان”، موضحًا أن “تحسين البنية التحتية سيقلص تكاليف النقل الداخلي بنحو 30%، ما ينعكس مباشرة على زيادة تنافسية الصادرات”.
كما أن شبكات النقل الجديدة تعزز الاندماج الوطني، إذ تربط مناطق نائية مثل بلوشستان وخيبر بختونخوا بالمراكز الاقتصادية الكبرى، وهو ما يعزز العدالة التنموية ويوفر فرص عمل واسعة.
ثانيًا: الطاقة… من العجز إلى الفائض
أحد أعمدة المشروع هو الاستثمار في قطاع الطاقة. على مدى عقود، عانت باكستان من أزمة كهرباء خانقة تسببت في تعطيل المصانع وتكبد الاقتصاد خسائر بمليارات الدولارات سنويًا.
من خلال CPEC، تم إطلاق مشاريع متعددة تشمل محطات طاقة حرارية، محطات شمسية ورياح، إضافة إلى سدود كهرومائية. وبحسب وزارة الطاقة الباكستانية، فإن هذه المشاريع أضافت بالفعل آلاف الميجاواط إلى الشبكة الوطنية.
وذكر تقرير للبنك الدولي أن “استثمارات الطاقة ضمن CPEC يمكن أن تضاعف إنتاج الكهرباء في باكستان بحلول 2030، وتوفر أساسًا مستقرًا لنمو الصناعات الثقيلة والخفيفة”.
ثالثًا: ميناء جوادر… القلب النابض
يقع ميناء جوادر في أقصى جنوب غرب باكستان، وهو حجر الزاوية للممر الاقتصادي. يجري تطويره ليكون ميناءً عالميًا حديثًا قادرًا على استيعاب ملايين الأطنان من البضائع سنويًا.
المحلل السياسي سمير أحمد يصف جوادر بأنه “بوابة جديدة لآسيا الوسطى”، مشيرًا إلى أن الميناء يمنح الصين منفذًا مباشرًا إلى المحيط الهندي، ويحول باكستان إلى مركز لوجستي عالمي.
أما الخبير البحري البريطاني جوناثان وود فيرى أن “جوادر قد ينافس موانئ كبرى مثل جبل علي خلال العقد المقبل، خصوصًا مع اكتمال الربط البري الذي يختصر زمن نقل البضائع الصينية إلى الخليج وأوروبا”.
رابعًا: فرص استثمارية شاملة
لا يقتصر أثر CPEC على الطرق والطاقة، بل يفتح آفاقًا استثمارية في الزراعة، الصناعة، التكنولوجيا، والخدمات اللوجستية.
في الزراعة: يتوقع خبراء أن يساهم الممر في تحديث أنظمة الري وزيادة إنتاجية المحاصيل، ما يعزز الأمن الغذائي.
في الصناعة: يجري إنشاء مناطق اقتصادية خاصة تقدم حوافز ضريبية وتسهيلات للمستثمرين المحليين والأجانب.
في التكنولوجيا: يربط الممر المناطق النائية بشبكات الإنترنت عالية السرعة، ما يفتح الباب أمام الاقتصاد الرقمي.
في الخدمات اللوجستية: من المتوقع أن تحقق باكستان إيرادات سنوية تتجاوز 10 مليارات دولار من خدمات النقل والتخزين بحلول 2035، وفق تقرير لصندوق النقد الدولي.
خامسًا: البعد الجيوسياسي
إلى جانب المكاسب الاقتصادية، يحمل الممر أبعادًا استراتيجية. فهو يجسد عمق الشراكة الصينية–الباكستانية، ويمنح إسلام آباد مكانة متقدمة ضمن مبادرة “الحزام والطريق”.
وزير الخارجية الصيني الأسبق وانغ يي صرّح بأن “CPEC ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل رمز للتعاون الاستراتيجي العميق بين الصين وباكستان، ونموذج للتنمية المشتركة”.
بالنسبة لباكستان، فإن المشروع يعزز قدرتها التفاوضية إقليميًا ودوليًا، ويمنحها دورًا محوريًا في الربط بين آسيا الوسطى، الشرق الأوسط، والمحيط الهندي.
سادسًا: توقعات الخبراء للمستقبل
يقدّم خبراء محليون ودوليون رؤى متفائلة حول مستقبل CPEC: تقرير صادر عن مؤسسة ماكينزي العالمية يتوقع أن يتضاعف حجم الاقتصاد الباكستاني بحلول عام 2040 إذا استثمرت البلاد بفاعلية في الممر.
البنك الدولي يشير إلى أن “CPEC قد يخفض نسبة الفقر في باكستان إلى النصف بحلول 2035، بفضل فرص العمل وتحسين البنية التحتية”.
الاقتصادي الصيني ليو شيانغ يرى أن “الممر سيجعل من باكستان مركزًا إقليميًا لتصنيع السلع منخفضة ومتوسطة الكلفة، بما يخدم الأسواق الإفريقية والعربية”.
تقرير لمجموعة HSBC المصرفية يتوقع أن يتحول ميناء جوادر إلى أحد أكثر الموانئ نشاطًا في المحيط الهندي بحلول 2030، بطاقة استيعابية تصل إلى 400 مليون طن سنويًا.
سابعًا: قصص إنسانية تعكس التغيير
بعيدًا عن الأرقام، تظهر على الأرض مؤشرات ملموسة للتغيير. ففي بلوشستان، التي طالما عانت من التهميش، بدأ السكان يستفيدون من الوظائف التي يوفرها الميناء والمشاريع المرتبطة به.
يقول محمد علي، أحد سكان جوادر: “قبل سنوات، لم نكن نتصور أن مدينتنا الصغيرة ستصبح موضع اهتمام عالمي. الآن نجد فرص عمل في الميناء، وبدأت حياتنا تتغير”.
ثامنًا: نحو رؤية مستقبلية
مع استمرار تنفيذ مشاريع الممر، تتجه باكستان نحو مرحلة جديدة من النمو. البنية التحتية الحديثة، استقرار الطاقة، وتوسع ميناء جوادر، كلها عناصر تجعل البلاد أقرب إلى التحول لمركز اقتصادي إقليمي.
ويرى الخبير الباكستاني فهد زاهد أن “CPEC قد يكون المشروع الذي يغيّر صورة باكستان من دولة تبحث عن المساعدات إلى دولة مُصدّرة للتنمية”.
الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني مشروع القرن لباكستان، ليس فقط لأنه يعيد رسم الخريطة الاقتصادية، بل لأنه يضع البلاد على مسار جديد من التكامل الإقليمي والعالمي.
ومع التوقعات المتفائلة من المؤسسات المالية والخبراء، يبدو أن العقدين المقبلين قد يشهدان تحولًا جذريًا في مكانة باكستان، من دولة ناشئة إلى قوة اقتصادية صاعدة في جنوب آسيا، مستفيدة من شراكة استراتيجية مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
يُعتبر الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني أحد أبرز التحالفات الجيوسياسية في آسيا، إذ يعكس عمق الشراكة الاستراتيجية بين بكين وإسلام آباد. هذا المشروع يمنح الصين منفذًا بحريًا مباشرًا على بحر العرب عبر ميناء جوادر، ما يقلل اعتمادها على الطرق البحرية التقليدية المهددة بالنزاعات.
سياسيا: نقطة ارتكاز جديدة
بالنسبة لباكستان، يمثل الممر ورقة قوة سياسية جديدة، حيث يعزز موقعها التفاوضي مع القوى الكبرى، ويجعلها محورًا أساسيًا في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. هذا البعد الاستراتيجي يمنحها وزنًا إضافيًا في محيطها الإقليمي.
إقليميًا، يثير المشروع توترات متزايدة مع الهند التي تنظر إلى CPEC باعتباره تهديدًا مباشرًا لمصالحها، خاصة أنه يمر عبر إقليم كشمير المتنازع عليه. وقد ساهم ذلك في زيادة حدة التنافس الصيني–الهندي، وأدخل باكستان في قلب معادلة النفوذ الإقليمي.
دوليًا، ترى قوى غربية مثل الولايات المتحدة في الممر أداة لتعزيز النفوذ الصيني عالميًا، مما يجعل باكستان في موقع حساس بين شركائها التقليديين والتحالفات الجديدة التي يفرضها الواقع الاقتصادي.
على الصعيد الداخلي، يعزز المشروع مكانة الحكومة الباكستانية أمام الرأي العام المحلي، باعتباره إنجازًا استراتيجيًا يجذب الاستثمارات ويعزز التنمية، وهو ما يترجم إلى مكاسب سياسية للقيادة.
ويشير المحلل السياسي سمير أحمد إلى أن “CPEC لا يقتصر على كونه مشروعًا اقتصاديًا، بل هو تحالف استراتيجي يُعيد رسم الخريطة السياسية لجنوب آسيا ويمنح باكستان نفوذًا دبلوماسيًا غير مسبوق”.
