الأمة : كان مسجد دوديان في بكين، بقبابه المذهلة ومآذنه المزخرفة، أحد أعظم المساجد في شمال الصين، لكن في وقت سابق من هذا العام، أزيلت مآذنه، واستبدلت قبابه بمخاريط على طراز الباغودا، وتم تربيع أقواسه ذات الطراز العربي.
وثّقت عمليات هدم المساجد وتعديلها في شينجيانغ (تركستان الشرقية) المسلمة التي تحتلها الصين منذ اربعينيات القرن الماضي .
حيث يجري اعتقال مئات الآلاف من المسلمين الأويغورسكان “تركستان الشرقية ” وكانت هناك بعض الأدلة على حدوث تغييرات معمارية في أماكن أخرى.
لكن صحيفة “فايننشال تايمز” وجدت الآن أن حملة القمع التي تشنها بكين على الإسلام امتدت إلى كل منطقة في البلاد تقريبًا.
يكشف تحقيق بصري يعتمد على صور الأقمار الصناعية لآلاف المساجد قبل وبعد التعديل، عن سياسة واسعة النطاق تتمثل في تجريد المباني من السمات العربية، واستبدالها في بعض الحالات بالتصاميم الصينية التقليدية، حتى إن بعض المساجد قد هدمت.
يُظهر تحليل 2312 مسجدًا تتميز بالعمارة الإسلامية أن ثلاثة أرباعها قد تم تعديلها أو تدميرها منذ عام 2018، بالنسبة لبعض الناشطين، تعكس هذه التغييرات قمعًا أوسع للثقافة الإسلامية.
يقول ما جو، وهو ناشط من أجل حقوق المسلمين الصينيين مقيم في الولايات المتحدة: “هذه هي بداية نهاية الإسلام في الصين”.
قال ماجو دينغ، مستخدمًا اسمًا مستعارًا، عند تذكر ما حدث في مسجد ناجياينغ بمقاطعة يونان جنوب غرب الصين في وقت سابق من هذه السنة: “عندما رأيت بدء هدم قبة المسجد، شعرت بألم في قلبي”.
وتصدّت شرطة مكافحة الشغب للإحتجاجات ضد ما أشار إليه المسؤولون بـ “تجديد” مسجد محلي في أيار/ مايو. قال دينغ “شعرت وكأن شخصًا آخر قد قام بإزالة منزلي بالقوة، وكل ما يمكنك فعله هو المشاهدة ، إنه تدمير لديننا”.
على بعد أكثر من 1000 ميل في مسجد دوديان على مشارف العاصمة بكين، تظهر شاشة عرض معلومات الزوار – عن غير قصد – التغيير الدراماتيكي في تصميم المسجد.
حيث تمت تغطية صورة مضاءة في خلفية المبنى القديم بشكل فضفاض بصورة حديثة، وإلى جانب إزالة معالمه المعمارية، اختفت معظم الزخارف الإسلامية التي كانت تزيّن واجهة المسجد في وقت سابق، ويضم تصميمه الخارجي عددا من كاميرات المراقبة.
في معرض خارج الفناء الرئيسي، تحث لوحة كبيرة المصلين على “تعزيز الوحدة” و”معارضة الإنقسام”، وهي مستوحاة من القرآن وتعاليم المفكرين الصينيين التقليديين.
ولا يزال من الممكن رؤية آيات من القرآن الكريم داخل المسجد، كما لم تتغير قاعة الصلاة، قال أحد السكان المحليين إن المسجد “لا يبدو صينيا أو أجنبيا بالكامل”.
وبدلا من ذلك، يذكره التصميم الحالي بالمبنى الحكومي المهيب الذي يستضيف مؤتمرات الحزب الشيوعي في وسط العاصمة، حيث أردف قائلا “إنه يشبه إلى حد ما قاعة الشعب الكبرى”.
رفض العديد من السكان المحليين من رُوّاد مسجد دوديان، وكذلك المسلمين الصينيين الذين تم الاتصال بهم لإجراء مقابلات، التحدث أو طلبوا عدم الكشف عن هويتهم خوفًا من انتقام الحكومة.
ما حدث لمجتمعاتهم تكرّر في مختلف أنحاء الصين، حيث تم تعديل مئات المساجد على امتداد السنوات الخمس الماضية.
وتظهر صور الأقمار الصناعية أن ما لا يقل عن 1714 مبنى قد تم تغييرها أو تجريدها من الطابع الإسلامي أو تدميرها، وقالت الحكومة إن هذه التغييرات تهدف إلى تحديث المساجد و”مواءمتها” مع الثقافة الصينية الشيوعية الملحدة.
كانت مثل هذه التعديلات أكثر انتشارًا في المناطق التي تضم أكبر عدد من المجموعات العرقية التي تعتنق الإسلام.
وفي المنطقة الغربية من “نينغشيا”، يظهر تحليل الأقمار الصناعية أن أكثر من 90 بالمئة من المساجد التي تحمل الهندسة المعمارية الإسلامية قد تمت إزالتها، وفي مقاطعة قانسو الشمالية الغربية يتجاوز الرقم 80 بالمئة.
يعتبر التحقيق الذي أجرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” الأوّل من نوعه الذي يوثّق حجم ومدى انتشار هذه السياسة.
وكشف تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” في نيويورك، نُشر في وقت سابق من هذا الشهر، عن عدد من المساجد المعدلة في المناطق الشمالية من نينغشيا وقانسو.
وتقول منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن التغييرات تتعارض مع حرية الدين المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة.
كما وثّق تقرير صدر سنة 2020 من معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي تدمير وتجديد المساجد في شينجيانغ، ووجد أن ثلثيها قد تم تغييرها، حدث معظمها منذ سنة 2017.
وفحص التحقيق الذي أجرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” نفس المساجد ووجد أن المزيد منها قد خضع للتغيير منذ ذلك الحين.
ما وراء شينجيانغ “تركستان الشرقية”:
يعيش في الصين حوالي 20 مليون مسلم. ربما يكون الأويغور في شينجيانغ (تركستان الشرقية) الأكثر شهرة.
يصف جيمس ليبولد، الخبير في السياسات العرقية للصين في جامعة “لا تروب” في أستراليا، مجموعة هوي العرقية بأنهم في نظر الدولة الصينية “المسلمون الصالحون” الذين “يتحدثون اللغة الصينية ويلتزمون بالعناصر الأساسية لثقافتها وبالتالي يمكن الوثوق بهم”.
يعيش مسلمو الهوي في جميع أنحاء الصين، وقد مُنحوا حريات دينية نسبيًا لا سيما بالمقارنة مع المسلمين من الشعوب التركية، مثل الأويغور.
وقد فرضت السلطات الصينية قيودا على المسلمين في شينجيانغ (تركستان الشرقية) بدرجات متفاوتة على امتداد العقدين الماضيين، بدءا بالمراقبة والقيود على العبادة، وبمرور الوقت،
ويتعرّض الأويغور للإعتقالات الجماعية في معسكرات مخصصة لإعادة التأهيل، للمراقبة المكثفة وقيود السفر – وهي إجراءات تقول الأمم المتحدة إنها قد ترقى إلى مستوى “جرائم ضد الإنسانية”.
تقول هانا ثيكر، مؤرخة الإسلام في الصين بجامعة “بليموث” البريطانية، إن “إزالة قباب المساجد هو الجانب الأكثر وضوحًا في سياسة إضفاء الطابع الصيني، التي تستهدف إعادة صياغة واسعة النطاق للعلاقة بين الحزب والدين”.
يخشى العديد من مسلمي الهوي أن يؤدي ذلك إلى تقويض حرياتهم الدينية أيضًا. وبالنسبة للمصلين مثل دينغ، فإن السياسة تتعلق بما هو أكثر من مجرد الهندسة المعمارية. حيال ذلك قال “لقد استنتجنا جميعًا أن الأمر لا يتعلق فقط بالقبة.
إنهم يريدون تهجير جميع المسلمين، وإزالة الإسلام من الحياة، للتوقف عن الصلاة، التوقف عن الدراسة الدينية. لتغيير ثقافتنا وأسلوب حياتنا”.