في خضم التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم، تتجه أنظار المحللين نحو منطقة جنوب شرق آسيا، حيث تشهد خريطة التمويل التنموي تحوّلًا ملحوظًا.
ففي الوقت الذي تتراجع فيه المساعدات الغربية، وعلى رأسها الدعم الأميركي والأوروبي، تبرز الصين كلاعب رئيسي يسعى لتوسيع نفوذه عبر مشاريع تنموية طموحة، مستغلّةً الفراغ المتزايد في الدعم الدولي.
هذا التحول، كما توثّقه دراسة جديدة صادرة عن معهد لوي للأبحاث في سيدني، يحمل في طيّاته فرصًا وتحديات كبيرة، ويعيد تشكيل موازين القوى في واحدة من أكثر المناطق حيوية ونموًا في العالم.
أظهر تقرير صادر عن معهد لوي للأبحاث في سيدني، نُشر اليوم الأحد، أن الصين تستعد لتوسيع نفوذها في مجال التنمية في منطقة جنوب شرق آسيا، مستغلةً التراجع الكبير في المساعدات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وذلك في وقت وصفه المعهد بأنه “لحظة غير مؤكدة” تمر بها المنطقة.
وذكر التقرير السنوي أن التمويل الرسمي للتنمية – بما يشمل المنح والقروض الميسّرة – بلغ نحو 29 مليار دولار في عام 2023. غير أن هذا الرقم مهدد بالانخفاض الحاد مع قرارات خفض المساعدات التي أعلنتها دول مانحة غربية مؤثرة.
ففي الولايات المتحدة، أوقفت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مساعدات إنمائية تُقدّر بنحو 60 مليار دولار، تمثّل العمود الفقري لبرنامج المساعدات الخارجية الأميركي.
وفي السياق نفسه، أعلنت سبع دول أوروبية – من بينها فرنسا وألمانيا – والاتحاد الأوروبي، عن خفض إجمالي للمساعدات بقيمة 17.2 مليار دولار خلال الفترة بين عامي 2025 و2029، كما تعتزم المملكة المتحدة خفض مساعداتها السنوية بمقدار 7.6 مليار دولار لإعادة توجيه الإنفاق نحو قطاع الدفاع.
وبحسب التقديرات، فإن إجمالي التمويل الرسمي للتنمية في جنوب شرق آسيا سينخفض بما يزيد عن 2 مليار دولار بحلول عام 2026، ما يُنذر بتأثيرات سلبية على أولويات تنموية حيوية مثل الصحة والتعليم ودعم المجتمع المدني، لا سيما في الدول الأضعف اقتصادياً مثل لاوس وكمبوديا وتيمور الشرقية وميانمار.
وأشار التقرير إلى أنّ “البلدان ذات الدخل المرتفع في المنطقة ما تزال تستأثر بحصة الأسد من التمويل، ما يخلق فجوة متزايدة في فرص التنمية قد تُهدد الاستقرار والمساواة على المدى الطويل”.
وفي المقابل، تسعى الصين إلى ملء هذا الفراغ. فقد ارتفع تمويلها للتنمية في المنطقة بمقدار 1.6 مليار دولار ليصل إلى 4.9 مليار دولار في عام 2023، مع تركيز خاص على مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل خطوط السكك الحديدية في إندونيسيا وماليزيا.
كما تضاعفت التزاماتها في هذا المجال أربع مرات تقريبًا لتصل إلى 10 مليارات دولار، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى إعادة إحياء مشروع ميناء كياوكفيو في ميانمار.
وحذّر التقرير من أنّ تقلّص التمويل الغربي وتراجع العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة من شأنه أن يُضعف قدرة دول جنوب شرق آسيا على التفاوض مع بكين بشروط متوازنة،
مما قد يؤدي إلى “تحوّل مركز الثقل التنموي في المنطقة نحو الشرق”، ليس فقط نحو الصين، بل أيضًا إلى دول آسيوية أخرى كاليابان وكوريا الجنوبية.
وفي ضوء هذه المستجدات، يرى خبراء التنمية أن دول جنوب شرق آسيا أصبحت أمام خيارات تنموية محدودة، لا سيما مع فشل المبادرات الغربية البديلة، ومنها دعم التحول للطاقة النظيفة، في تحقيق نتائج ملموسة، وهو ما يثير القلق الدولي نظراً لاعتماد المنطقة الواسع على الفحم، المصدر الرئيسي للانبعاثات الكربونية المتزايدة.