تقارير

الصين في مواجهة الرسوم الجمركية الأميركية.. حسابات معقدة واستراتيجية دفاعية

تشهد العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين تصعيداً جديداً، بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب مضاعفة الرسوم الجمركية على الواردات الصينية منذ عودته إلى البيت الأبيض. هذا الإجراء أثار قلق بكين، التي تخشى أن يكون بداية لحرب تجارية واسعة النطاق قد تنتهي بخسارتها. غير أن رد الصين “البارد” على هذه الخطوة يكشف عن استراتيجيتها الحذرة في التعامل مع التصعيد الأميركي، وسط تحديات اقتصادية داخلية معقدة.

تصعيد أميركي واستراتيجية صينية حذرة

منذ فرض واشنطن رسوماً جمركية إضافية بنسبة 10% على السلع الصينية في فبراير الماضي، تبنت بكين نهج الانتظار والترقب، على أمل أن يقدم فريق ترمب مطالب واضحة يمكن التفاوض حولها. إلا أن النهج الأميركي يبدو مصمماً على إعادة النظر في منظومة التجارة العالمية، التي يرى ترمب ومستشاروه أنها أفادت الصين على حساب الاقتصاد الأميركي.

لا فائز في الحروب التجارية

وفقاً لجاي كيديا، الباحث في مركز البدائل النقدية والمالية بمعهد “كاتو” في واشنطن، فإن الحرب التجارية لا تحقق مكاسب واضحة لأي طرف. ويشير إلى أن المبادئ الاقتصادية تؤكد أن التجارة الحرة تعود بالنفع على جميع الأطراف، بينما تؤدي القيود الجمركية إلى أضرار متبادلة.

إلا أن المواجهة بين القوتين الاقتصاديتين لا تقتصر على التجارة، بل تمتد إلى سباق على التفوق التكنولوجي والجيوسياسي. فبينما تسعى الصين لتجنب الصدام المباشر، تتبنى إدارة ترمب نهجاً أكثر حدة، متكئة على تحركات دبلوماسية تهدف إلى تعزيز موقفها في المواجهة.

تحولات في السياسة الأميركية تجاه الصين

شهدت السياسة الأميركية تحولات كبيرة خلال رئاسة ترمب الأولى، حيث استبدلت واشنطن استراتيجيتها السابقة القائمة على تعزيز التعاون الاقتصادي مع بكين بسياسات أكثر صرامة، تضمنت فرض رسوم جمركية وقيود تكنولوجية.

وترى الصين أن ترمب في ولايته الثانية بات أكثر تصميماً وأقل تحفظاً، ما يمهد الطريق لمواجهات أكثر حدة. ويعتقد مستشاروه أن الولايات المتحدة في موقع قوة، خصوصاً مع سعيها لإنهاء النزاعات في الشرق الأوسط وأوكرانيا، والتركيز بشكل أكبر على الصين، إضافة إلى تقاربه مع روسيا بهدف إضعاف التحالف الصيني-الروسي.

بكين في موقف دفاعي

على الرغم من مساعي الصين لتعزيز دورها العالمي والتحالف مع روسيا لمواجهة النفوذ الغربي، تجد نفسها اليوم في موقف دفاعي. فبدلاً من أن تكون واشنطن معزولة دولياً بسبب نهجها المتشدد، أصبحت بكين هي الطرف الذي يواجه عزلة تجارية، مع تزايد القيود المفروضة على سلعها والوصول المحدود إلى التقنيات الحيوية.

وفي ظل هذا الوضع، تجد بكين صعوبة في التواصل مع فريق ترمب، إذ لم تفلح الوفود الصينية التي زارت واشنطن منذ نوفمبر الماضي في تحقيق تقدم يُذكر. ويبدو أن فرض الولايات المتحدة مزيداً من الرسوم الجمركية قد أدى إلى إضعاف موقف الصين التفاوضي، ما جعل جهودها تبدو أشبه بمحاولات يائسة لإنقاذ اقتصادها المتعثر.

خيارات الصين المحدودة

على الرغم من امتلاك الصين أدوات اقتصادية مثل فرض ضوابط على تصدير المعادن الحيوية، إلا أنها تدرك أن الرد بالمثل عبر رفع الرسوم الجمركية على المنتجات الأميركية لن يكون مجدياً، نظراً للفارق الكبير في حجم التبادل التجاري بين البلدين.

ووفقاً للإحصائيات، بلغ الفائض التجاري للصين مع الولايات المتحدة 295 مليار دولار، وهو الأكبر بين جميع الشركاء التجاريين لواشنطن. كما انخفضت حصة الصين من إجمالي التجارة الأميركية من 15.7% عام 2018 إلى 10.9% عام 2024، بينما تراجعت حصة الولايات المتحدة من التجارة الصينية من 13.7% إلى 11.2% خلال الفترة ذاتها.

تحديات أمام إعادة تشكيل النظام التجاري

تسعى إدارة ترمب إلى إعادة تشكيل قواعد التجارة العالمية، التي مكّنت الصين من تحقيق نمو اقتصادي هائل عبر تصدير منتجاتها بأسعار منخفضة، مع الحد من دخول الشركات الأجنبية إلى سوقها. ويعتقد مستشارو ترمب أن واشنطن تستطيع تعزيز نفوذها عبر إعادة التفاوض على اتفاقيات تجارية منفصلة مع شركائها، وترك الصين تواجه تبعات أزمتها الاقتصادية.

المكسيك كنموذج للضغط الأميركي

اتجهت بكين خلال السنوات الماضية إلى الاستثمار بكثافة في دول مثل المكسيك وفيتنام وتايلاند، بهدف تحويل المكونات الصينية إلى سلع جاهزة للتصدير إلى الولايات المتحدة، متجاوزة بذلك العوائق التجارية. غير أن هذه الاستراتيجية باتت مهددة، حيث تسعى واشنطن إلى فرض ضغوط على المكسيك لإغلاق أسواقها أمام المنتجات الصينية مقابل إعفائها من الرسوم الجمركية، ما قد يُشكل سابقة تطالب بها دول أخرى، مما يحدّ من قدرة الصين على الوصول إلى السوق الأميركية عبر طرق غير مباشرة.

المستقبل.. مواجهة مفتوحة أم تسوية؟

في ظل التصعيد المتبادل، تبقى الأسئلة مفتوحة حول مستقبل الحرب التجارية بين القوتين الاقتصاديتين. فبينما تسعى الصين إلى الحفاظ على استقرارها الاقتصادي وتجنب مواجهة مباشرة، تبدو إدارة ترمب عازمة على فرض تغييرات جذرية في النظام التجاري العالمي.

ويبدو أن الفترة المقبلة ستشهد مزيداً من الضغوط، إذ تراهن بكين على قدرتها على الصمود، بينما تصرّ واشنطن على اختبار مدى تحمل الاقتصاد الصيني لهذه المواجهة الممتدة. وفي حال لم يتم التوصل إلى تسوية، فإن العالم قد يكون على أعتاب مرحلة جديدة من التوترات الاقتصادية ذات التأثيرات العميقة على التجارة العالمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights