يُعد الدكتور عبد الوهاب المسيري (1938 – 2008م) من أبرز المفكرين العرب الذين خاضوا في أعماق الفكر الغربي الحديث، ناقدًا ومحللًا، ومقدمًا للقارئ العربي أدوات لفهم هذا الفكر دون انبهار أو استسلام.
وفي كتابه “العالم من منظور غربي”، الصادر عن دار الشروق، يضعنا أمام قراءة نقدية للوعي الغربي، من جذوره الفلسفية إلى تجلياته السياسية والاقتصادية والثقافية.
المسيري يقول في مقدمة الكتاب:
“هذا الكتاب محاولة لرصد ملامح الرؤية الغربية للكون والإنسان والمجتمع، لا بهدف الرفض المطلق أو القبول المطلق، بل بهدف الفهم النقدي، حتى نرى الغرب كما هو، لا كما يريد أن يُرى.”
الفكرة المركزية: الغرب يعيد صياغة العالم وفق منظوره
الغرب – كما يوضح المسيري – لا يكتفي بمراقبة الكون، بل يعيد تفسيره وصياغته بما يتناسب مع منظومته الفلسفية. فبعد أن كان الإنسان جزءًا من نسق كوني غيبي، أصبح في الحداثة الغربية مركزًا بديلاً عن الله، والطبيعة لم تعد مجالًا لآيات الخالق بل مجرد مادة أولية للاستغلال.
“حين غاب الإله عن مركز الرؤية، جلس الإنسان مكانه، وصار هو المرجعية النهائية، وصار العالم صامتًا، بلا غاية ولا معنى، مادة تنتظر من يشكّلها.”
أبرز محاور الكتاب
1- مركزية الإنسان والعقل الأداتي
يرصد المسيري كيف تحوّل الإنسان في الغرب من كائن أخلاقي–روحي إلى كائن نفعي–مادي.
“الإنسان في الرؤية الغربية ليس سوى عقل أداتي، يقيس كل شيء بمدى نفعه المباشر، ويستبعد أي بعد غيبي أو أخلاقي.”
العقل الأداتي هذا هو الذي قاد إلى تحويل كل شيء إلى سلعة: الطبيعة، الجسد، وحتى القيم الإنسانية.
2- العلم كأيديولوجيا جديدة
يتوقف المسيري طويلًا عند مكانة العلم في الحضارة الغربية الحديثة، حيث لم يعد مجرد وسيلة لمعرفة الكون، بل أصبح مرجعية نهائية:
“العلم الحديث لا يكتفي بوصف الظواهر، بل يدّعي القدرة على تفسير الوجود بأسره، مستبعدًا كل ما لا يخضع للتجريب أو القياس.”
وهذا ما قاد إلى عالم “صامت”، تفسَّر فيه الحياة كحركة ذرات بلا معنى، ويُختزل فيه الإنسان إلى مجرد “آلة بيولوجية”.
3- الفردانية والاغتراب
الغرب يحتفي بالفرد و”حريته”، لكن النتيجة paradoxically هي العزلة:
“تحرر الإنسان الغربي من قيود الأسرة والدين والجماعة، لكنه وجد نفسه في النهاية وحيدًا أمام آلة السوق والدولة، محاصرًا بالاغتراب.”
الفرد أصبح مجرد “مستهلك”، تقاس قيمته بقدرته على الشراء، لا بإنسانيته.
4- التاريخ والمركزية الغربية
الغرب – بحسب المسيري – أعاد كتابة التاريخ بحيث يجعل نفسه مركزًا للعالم.
“المركزية الغربية لا ترى الآخر إلا باعتباره هوامش تدور في فلك المركز، سواء في صورة الاستعمار القديم، أو العولمة الحديثة.”
فالاستعمار العسكري بالأمس، والعولمة الاقتصادية والإعلامية اليوم، وجهان لعملة واحدة: فرض النموذج الغربي على الجميع.
5- المأزق الإنساني للغرب
رغم التقدم الهائل في مجالات العلم والتقنية، يعيش الغرب مأزقًا عميقًا:
قلق واكتئاب.
عزلة فردية.
سيطرة الاستهلاك.
غياب المعنى الروحي.
“إنسان ما بعد الحداثة محاط بالسلع والتقنية، لكنه يفتقد الدفء الإنساني والمعنى الوجودي.”
أهمية الكتاب في الفكر العربي
يقدّم الكتاب ثلاث قيم أساسية للقارئ العربي:
1- كسر الانبهار: الغرب ليس النموذج الوحيد للحضارة.
2- التفكيك والتحليل: عبر مفاهيم مثل “العقل الأداتي” و”المركزية الغربية”.
3- البحث عن بديل: رؤية إنسانية متوازنة، تستفيد من منجزات الغرب دون أن تقع في أسره.
الكتاب ضمن مشروع المسيري الفكري
لا ينفصل هذا الكتاب عن بقية مؤلفات المسيري، مثل:
العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (تحليل لظاهرة العلمنة الغربية).
موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (نقد فكري–حضاري للمشروع الصهيوني).
رحلتي الفكرية (تجربة شخصية في مواجهة الفكر الغربي).
كلها تصب في هدف واحد: إعادة الاعتبار للإنسان ككائن أخلاقي وروحي، ضد اختزاله المادي الغربي.
رسائل الكتاب
الغرب ليس بريئًا ولا محايدًا، بل يرى العالم من منظور خاص.
هذه الرؤية أفرزت أزمات حضارية كبرى.
البديل ليس الرفض المطلق، بل التفاعل النقدي الواعي.
العالم من منظور غربي
يقف المسيري في “العالم من منظور غربي” كمن يحمل مرآة، يضعها أمام الغرب ليكشف لنا وجهه الحقيقي: عقل جبار لكنه مادي، إنجازاته ضخمة لكنها بلا روح.
عالم يَعِد بالتقدم لكنه يورّث الاغتراب. ومن بين السطور يوجّه إلينا رسالة ثقافية خالدة: لسنا مضطرين أن نرى العالم بعيني الغرب، فلنا أن نعيد اكتشافه بعيوننا، بعيون تبحث عن المعنى قبل المنفعة، وعن العدالة قبل الهيمنة.